أما النصارى ففي ثقافتهم الدِّينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط، وهل صفات اللَّه زائدة عن ذات اللَّه أو هو هي، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين.
وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية: كالتناسخ والحلول والاتحاد.
" وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن اللَّه اصطفاهم للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة، وأنهم ظل اللَّه في أرضه. . . وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم ".
ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء، ولسنا حين نقرر ذلك بدعًا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة.
إن انتقال مسائل العقائد الدِّينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحًا لديانات مختلفة، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم؛ قال تعالى:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)" وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببًا في تبادل الأفكار بين الفريقين ".