للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ولي أمره به، فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، وقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يهلمم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم اللَّه في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ)، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.

والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من اللَّه وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عَزَّ وَجَلَّ. ولا قوة إلا باللَّه.

ثم بين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضًا بقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .) الآية، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)، وقال في موضع آخر: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرًا، ومعلوم أن كان ذلك حقا لله عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرًا له، مع ما كان العبد

<<  <  ج: ص:  >  >>