للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإطلاق: أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون، جائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وانتفعوا به يؤمنون به.

أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، أُولَئِكَ يؤمنون به، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون.

فأمأ أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) ذكر أهل التأويل: أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث مُحَمَّد، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل.

وفيه دلالة: أن الإيمان والإسلام واحد؛ لأنهم قالوا: (آمَنَّا بِهِ)، وقالوا: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد؛ وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام؛ دل أنهما واحد.

وقوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤)

هذا يحتمل وجوهًا ثلاثة:

أحدها: يؤتون أجرهم مرة بالإسلام، ومرة بما صبروا على زوال الرياسة منهم وذهابها؛ لأنهم كانوا أهل رياسة ومنزلة وقدر، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام، فلهم الأجر مرتين لذلك.

والثاني: يؤتون أجرهم مرتين: مرة بالإسلام، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم: أحد الأجرين بإسلام أنفسهم، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة، ويضاعف العذاب عليهم مرتين: مرة بضلال أنفسهم، ومرة بإضلال غيرهم؛ كقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، جائز: أن يكون إيتاء الأجر مرتين؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، وذلك - واللَّه أعلم - لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن؛ فعلى ذلك الأول.

والثالث: جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه، ويكون الصبر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنوا وأسلموا.

<<  <  ج: ص:  >  >>