وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أَثْرَتْ تفسيره، وأَثَّرَتْ فيه، وهي:
أولًا: تفسير القرآن بالقرآن:
لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام اللَّه جل جلاله من اللَّه، فصاحب البيت أدرى بما فيه، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدِّين بالضرورة؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول، والعماد المتين لهذا الدِّين، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلًا.
والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره -وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور- لكنه لم يكثر منه، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي.
والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي، لكنه الرأي المقيد بالنص.
ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى:(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال: " وقوله: (وَكَذَلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق، فهو -والله أعلم- يحتمل أن يقول: لما قالوا: يا مُحَمَّد، أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك:(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.