وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)، أي: سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى، وفي حفظه - عليه السلام - ما يوحى إليه دلالة رسالته؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة، ولا كان يتلو الكتب، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إليه إلى أن يقضي إليه الوحي، ومن كانت حالته ما ذكرنا، تعذر عليه حقظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه، فكيف يضبطه بمرة واحدة؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (٧) قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: إلا ما شاء اللَّه من ذلك؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه.
ولكن ما أرى هذا التأويل صحيحا، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته؛ فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ، ثم أنسي، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه.
وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي، ولكنها من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز قطع الحكم بها؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل، ولا يوجب علم الشهادة، وهي في موضع الشهادة هاهنا، ولكن تأويله عندنا - واللَّه أعلم - يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زواد ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - عند محاجة قومه قال:(أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي)، وقال:(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، فخاف زوال ما أكرم به، وخشي أن يبتلى بما ابتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء، وقال في قصة شعيب - عليه السلام -: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)، وقال في قصة يوسف - عليه السلام -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم، فكذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن عما