للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما قوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، فيخرج هذا القول منهم مخرج الاحتجاج: لو شاء اللَّه أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً). ففيه يوضح الشبهة لهم أن يقولوا: هو بشر ونحن بشر، فليس هذا أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلًا إليه، فذلك موضع الشبهة، فأجابهم لذلك لما استنكروا واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم، فقال: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ... (٩٥) أي: مقيمين ساكنين فيها (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)؛ ثم اختلف فيه.

قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ)، أي: لو كان سكان الأرض ملائكة، فبعث إليهم رسولًا منهم أكان لهم أن يقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، أي: أبعث الله إلينا من جوهرنا؟! أي: ليس لهم أن يقولوا ذلك؛ فعلى ذلك إذا كان سكانها البشر ليس لهم أن يقولوا: أبعث اللَّه إلينا من جوهرنا رسولًا.

والثاني: لو كانت الأرض مكان الملائكة، وهم سكانها، لكان لكم أن تقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) من غير جوهرنا، فامّا إذا كانت الأرض مكان البشر، وهم سكانها، فليس لهم أن ينكروا بعث الرسول منهم ومن جوهرهم؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة، ولا من كان من غير جوهرهم، ويعرفون من كان من جوهرهم، فبعث الرسول من جوهرهم أولى بهم من غير جوهرهم.

أو يقول: لو كان في الأرض ملائكة وبشر، فعرفوا الملائكة، لكان لهم أن يسألوا رسولًا من الملائكة لما عرفوهم، فأمَّا إذا كان سكان الأرض ليسوا إلا بشرًا فليس لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنهم لم يعرفوا قوى الملائكة، ولا قوى الجن، وقد عرفوا قوى البشر فيعرفون الآيات والحجج من التمويهات إذ عرفوا قواهم ولم يعرفوا قوى الملائكة والجنّ؛ فلا يعرفون ما أقاموا أنها آيات وحجج، أو كان ذلك بقواهم، ويعرفون ذلك من البشر إذا خرجت من احتمال وسعهم وقواهم.

وبعد فإنهم قد أقروا برسالة البشر؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة إلا بخبر من البشر أنه ملك؛ إذ لم يكن لهم خلطة معهم ليعرفوهم؛ وإنما يعرفونهم بخبر من البشر: أنه

<<  <  ج: ص:  >  >>