للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهداية على البيان، وإذا كان كذلك وقد بين اللَّه تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا، فإذن قد أضله؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم.

ثم ليس في قوله: (قَدَّرَ فَهَدَى) نفي الإضلال؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداه؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه، وقد ذكر في موضع آخر المكرمين بالهدى؛ فقال: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) الآية؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص؛ فقوله: (قَدَّرَ)، أي: قدر لخلقه معايشهم، وهداهم وجه أخذ المعيشة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) في هذه الآية تعريف الرب الأعلى؛ كأنه يقول: الرب الأعلى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى).

ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدءها ولا انقضاءها، وهي السماوات والأرضون؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر، وفضل بصر، وزيادة تأمل.

وجائز أن يكون خص المرعى بالذكر؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام؛ للتعيش، والداوب حياتها بالمراعي؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي، فذكرهم هذا؛ ليستأدي منهم الشكر؛ إذ كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها، وإنما أنشئت للخلق؛ ليتمتعوا بها، ثم اللَّه - تعالى - بفضله أنشأ للدواب مراعي، وقدر لها أوقاتها، ولم يضيعها، فكيف يضيع هذا الخلق، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم، فلا يرزقهم، ويخرجهم من تدبيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) قيل: الغثاء: اليابس الذي تحمله السيول والأمطار (أَحْوَى) أي: أسود من قدمه.

وقيل: الأحوى: هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد، وهو على التقديم والتأخير؛ أي: جعله غثاء بعدما كان أحوى.

<<  <  ج: ص:  >  >>