للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بخلاف من لا طاقة له به، وانتصب لمعاداته، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا.

ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا؛ فنسبوه إلى الجنون مرة، وإلى أنه ساحر أخرى، ومرة قالوا: علمه بشر، ومرة قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا، لا عن بحث منهم في حاله، ولكن على السفه والعناد؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانيا، وهما أمران متناقضان؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته، والجنون هو النهاية في الجهل، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر، وأنه إفك افتراه؛ أتوا بالمختلف من القول؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه، مستغنٍ عن تعليم غيره، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم؛ سفها منهم وعنادا.

ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عندما رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز حكماء الإنس والجن عن إتيان مثله، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين، ولا من علومهم، ولكنه من عند اللَّه أكرم به.

وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه، فهم - بحمد اللَّه تعالى - لم يتهيأ لهم أن يمكروا به، ولا أن يقتلوه؛ بل أظفره اللَّه عليهم، وأظهره على الدِّين كله؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته، وعلم نبوته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) قال الحسن: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه بقلبه؛ أي: عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه، وخص بالأفق؛ لأنه من الأفق تنزل البركات

<<  <  ج: ص:  >  >>