للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقال اللَّه تعالى لنبيه كجَتَ: قل لهم: إن كانت لكم الدار الأَخرة -كما تزعمون- وأَنكم أبناءُ اللَّه وأحباؤه -كما تقولون- (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

وذلك أَن المرء لا يكره الانتقال إلى داره، وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرءُ لا يكره القدوم على أبيه، ولا على ابنه، ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا.

فإن كان كما تقولون، فتمنوا الموت؛ حتى تنجوا من غم الدنيا، ومن تحمل الشدائد التي فيها إن كنتم صادقين في زعمكم: بأَن الآخرة لكم، وأَنكم أبناءُ اللَّه وأَحباؤه.

فَإِنْ قِيلَ: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أَحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمنَّ الموت، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟ قيل: لوجهين:

أَحدهما: أَن المؤمنين لم يجعلوا لأَنفسهم من الفضل والمنزلة عند اللَّه ما جعلوا هم لأَنفسهم؛ فكان في تمنيهم صدقُ ما ادعَوْا لأَنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهورُ صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: ما ذكرنا أَنهم ادعوا: أَنهم أَبناءُ اللَّه وأحباؤه، وفي تمنيهم الموت ردهم، وصرفهم إلى الحبيب، والأَب الذي ادعوه، ولا أَحد يرغب وينفر عن حبيبه وأَبيه؛ فدل امتناعهم عن ذلك: على كذبهم في دعاويهم. وباللَّه نستعين.

فإن سأَلونا عن قوله: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأَجَل الذي جعل لهم، وفي ذلك: تقديم الآجال عن الوقت الذي كان أَجَلا، وقال الله تعالى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).

قيل: إن اللَّه علم منهم -في سابق علمه، وأَزليته- أَنهم لا يتمنون جعل أَجلهم ذلك.

ولو علم منهم أَنهم يتمنون الموت لكان يجعل أَجلهم ذلك في الابتداءِ، وكذلك هذا الجواب؛ لما روى: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ".

إنه كذلك يحتمل في الابتداءِ، لا أَن يجعل أَجله إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأَجل أَو ينقص، فيتمنى الموت عن الأَجل المجعول المضروب له، وبالله التوفيق.

وقوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا (٩٥)

فيه دلالة إِثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أَنه أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَنهم لا يتمنون أبدًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>