للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أحد من العباد، وهذا خلاف ما مدح اللَّه أتعالى نفسه به، واللَّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) يحتمل أن يكون تأويله:

فمنكم من يدين بدين الكفر، ومنكم من يدين بدين الإسلام، ودل هذا على أن المعصية والطاعة يجتمعان في دين واحد، وأن المعصية لا تخرجه من دينه؛ لأن المعصية، لم يرتكبها تدينا بها، ولكن لغلبة شهوة أو غضب عليه، وأما الكفر والإيمان فإنه يأتي بهما المرء اختيارا ويتدين بالكفر والإيمان؛ لما عنده أنه حق، وفي هذه الآية دلالة أنه ليس بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، وليس كما قالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة بين منزلتين بين الكفر والإيمان، واللَّه تعالى قسم الناس صنفين: فمنهم من خلقه كافرا، ومنهم من خلقه مؤمنا، ولم يجعل فيما بينهما منزلة ثالثة، فلا يجب أن نجعل، واللَّه الموفق.

وفيه أيضًا وجه لطيف سوى ما ذكرنا، وهو أن كل أحد في الدنيا مؤمن وكافر في الحقيقة؛ لأن من كان مؤمنا باللَّه فهو كافر بالطاغوت، ومن كان كافرا باللَّه فهو مؤمن بالطاغوت، وإذا كان كذلك، وجب أن يبحث عن معنى قوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ومعناه عندنا: أن الحقيقة وإن كانت كذلك فالإيمان إذا ذكر مطلقا لم يفهم منه إلا الإيمان باللَّه تعالى، والكفر إذا أطلق أيضًا لم يفهم منه إلا الكفر باللَّه تعالى، وإذا كان كذلك، جاز أن يكون لفظ الكتاب خارجا على ما عليه المعهود من المتعارف المعتاد، واللَّه أعلم.

وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في الأزل بما يعمله العباد، وأنه ليس كما قال بعض الناس: ألا يعلم فعل العبد إلا وقت فعله، واحتجوا في ذلك أنا لو قلنا إن اللَّه تعالى بصير في الأزل بما نفعله، لكان قولا بما لا يستقيم في المعقول؛ ألا ترى أنا لا نرى في الشاهد من يبني بناء يعلم أنه يضره أو يشتري عبدا يعلم أنه يعاديه، فكذا لا يستقيم أن يقال إن اللَّه تعالى خلق عبدًا قد كان يعلم من قبل أنه إذا خلقه عاداه.

<<  <  ج: ص:  >  >>