للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في ضيق بمكة من إظهار الإيمان بها فإن أرض المدينة واسعة فإياي فاعبدون بها علانية، ثم خوف بالموت؛ ليهاجروا، فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) في الآخرة، ثم نعتهم فقال: الذين صبروا على الهجرة وباللَّه يثقون في هجرتهم، وذلك أن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة، فوعظهم بما ذكر.

وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) من الناس من يجعل الآية صلة قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) أنهم أمروا بالهجرة من بلدتهم والخروج من مقامهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ فاشتد ذلك عليهم، وضاق بذلك ذرعهم؛ لضيق العيش هناك لما لم يتهيأ لهم ولا يتأدى لهم حمل أموالهم، والمكاسب التي بها يتعيشون في بلدهم ويتسعون بها، فأخبر أن له خلائق يرزقهم حيثما توجهوا وحيثما كانوا لا يحملون معهم شيئا من الرزق؛ بل يرزقهم حيثما كانوا ابتداء؛ فعلى ذلك هو يرزقكم حيثما كنتم حملتم مع أنفسكم شيئًا من الأموال والمكاسب أو لم تحملوا، فلا يضيقن صدركم بترككم الأموال والمكاسب في بلدكم.

وجائز أن يكون لا على الصلة بما تقدم، ولكن على ابتداء تذكير وتنبيه للبشر وبغير سبب؛ إذ قد يرزق ويبسط من ليس له من الأسباب شيء نحو ما ذكر من رزقه الطير والدوأب، وغير ذلك من البشر الذين يرزقون بلا أسباب ومكاسب؛ ولذلك ذكر - والله أعلم - على إثر ذلك (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) يبسط لمن يشاء وإن لم يكن له سبب ويقدر على من يشاء، وإن كان معه سبب؛ لئلا يعلقوا قلوبهم في الرزق في الأسباب والمكاسب.

وعلى قول المعتزلة: إن اللَّه لا يقدر أن يبسط الرزق لمن يشاء؛ لأنهم لا يجعلون لله في الأسباب والمكاسب صنعًا، وإنما يجعلون منه خلق أصول الأشياء من الإنبات والإخراج من الأرض، وأما غير ذلك فهو كله للخلق على قولهم، فذلك النبات والخارج منها للكل ليس بعضهم بذلك أولى من بعض، فتذهب فائدة ما ذكر من البسط والتوسيع والتقتير على قولهم.

وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) على إثر ما ذكر يخرج على وجوه:

أحدها: المجيب لكل ما يدعون ويسألون، العليم بحوائجهم؛ حيث كانوا وأين كانوا.

أو السميع لقولهم: إنا لا نجد ما ننفق ونتعيش، العليم بما أضمروا ونحوه.

* * *

قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>