أمرا أو استقبلهم أمر يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجى والتدبير منهم، ثم يعملون بتدبير يكون لهم وما يرون ذلك صوابًا؛ وعلى ذلك أمر اللَّه رسوله أن يشاور أصحابه بقوله:(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على اللَّه في ذلك، وأن يكل أمره إليه.
وقوله:(حَتَّى تَشْهَدُونِ): يحتمل وجهين:
ما كنت قاطعة أمرا حتى تحضروا.
أو ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدوا أنه صواب حق.
فأجابوها فيما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك، فقالوا:(نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) أي: نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس شديد، أي: حرب وقتال شديد، أي: لنا معرفة في ذلك، ومع ما قالوا وكلوا الأمر إليها حيث قالوا:(وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)، وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والحسن لهم، ثم يكلوا الأمر إليهم.
وقصة سليمان صلوات اللَّه عليه مع ما فيها من العجائب والآداب، ففيها معرفة سياسة الملوك وتعلم آدابهم؛ من ذلك: ما قال سليمان: (فَهُم يُوزَعُونَ)، ومن ذلك قوله:(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ. . .) الآية، وقوله:(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا)، أو من ذلك استشارة بلقيس أشراف قومها في ذلك وجوابات قومها لها، وإخبارها إياهم من طبع الملوك وعاداتهم من الإفساد والقتل والإذلال؛ حيث قالت:(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) قال أهل التأويل: هذه شهادة من اللَّه لها بما قالت، والتصديق لها فيما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.
ثم قال:(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) ذكر أنها قالت: إن لي في هذا رأيا، فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال فيسكت عنا ويكف شره، وإن يكن نبيا فلا يقبل ذلك منا وسنعرف، فعملت ذلك وأرسلت إليه بهدايا، فلم يقبلها سليمان فعرفت أنه نبي، وهذا كان منها تدبيرًا أو حسن الرأي في الأمر واحتيالا وفقت في ذلك، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها.
وقال ابن عَبَّاسٍ:" قالت بلقيس لما أتاها كتاب سليمان، واستشارت قومها في ذلك وطلبت فتياهم، فأفتوا لها بما أفتوا - قالت: أبعث إليه بهدية، فإن قبلها فهو ملك فأحاربه، وإن لم يقبلها فهو نبي أتابعه ".