وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق، ولا يعلم يقينًا أنه وفي ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به، واللَّه أعلم.
ليس النهي عن المشي نفسه؛ إنما النهي للمشي المرح، ثم النهي عن الشيء يوجب ضده، وكذلك الأمر، ثم إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده؛ والأمر بالشيء يوجب النهي بضده، وهاهنا نهي عن المرح؛ فيكون أمرًا بما ذكر؛ كقوله:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: مرحًا: بطرًا وأَشَرًا، وقيل: متعظمًا متكبرًا بالخُيَلاء.
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ طول الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبروا على اللَّه ولا تعظموا عليه ولا على رسوله؛ بل خضعوا له؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك - أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدِّين، وقهر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا - لم يتهيأ لكم إطفاء دين اللَّه، وقهر رسوله، وهو ما ذكر:(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، أو يذكر هذا يقول: إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج، واللَّه أعلم.
أو يقول: إنك لن تخرق الأرض، أي: لا تقدر أن تخرق الأرض؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع؛ فتنتفع بها، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولًا؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبَّر على مثله، واللَّه أعلم.