إذا أريد أن يسوي بين هذه الآية والآية التي قبلها، وهو قوله:(وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ. . .) إلى آخره، ويجمع بينهما يكون قوله:(إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) من الأصنام التي يعبدونها؛ لأنه يقول في هذه الآية:(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، وفي الأولى يقول:(وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)؛ فوجه الجمع بينهما ما ذكرنا: أن يكون القنوط من الأصنام، واللَّه أعلم؛ كقوله:(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
أو أن يكون قوله:(إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ): عندما امتد بهم الضر والشدة؛ حينئذ ييئسون من رحمة اللَّه، والأول في ابتداء ما أصابهم من الضر فزعوا إليه وأنابوا له.
أو أن يكون إحدى الآيتين في قوم، والأخرى في قوم آخرين؛ لأنهم كانوا فرقًا وأحزابًا في الكفر والشرك: منهم من كان يشرك في الأحوال كلها: في حال الضيق والسعة، ومنهم من كان يشرك في حال الضيق، ويؤمن في حال السعة، كقوله:(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)، وكقوله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ).
ومنهم من كان يخلص الدِّين في حال الضر والشدة، ويعاند ويتمرد في حال السعة والرخاء؛ كقوله:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، ونحوه؛ فكانوا فرقا وأحزابا على ما ذكرنا؛ فجائز أن يكون إحدى الآيتين في فريق وقوم، والآية الأخرى في قوم آخرين.
أو ما ذكرنا من اختلاف الأحوال: يقنطون عندما امتد بهم الضر والشدة، وينيبون إليه عندما لم يمتد بهم ذلك ولم يتطاول.
أو ما ذكرنا من القنوط من الأصنام والإنابة إلى اللَّه؛ كقوله:(ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).
وإلا الآيتان في الظاهر متناقضتان، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.