للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي يهدم أصلاً من أصول المعتزلة وهو مبدأ الصلاح والأصلح.

ولا ريب أن هذه المناظرة -ولا نستبعد وقوع مناظرات أخرى غيرها- قد زعزعت إيمان الأشعري فيما يؤمن به من آراء اعتزالية، وحملته على إعادة النظر فيها، وامتحانها عله يهتدي إلى وجه الحق، فعكف في بيته مدة ينظر في كتب المعتزلة، ويزن أدلتهم، حتى اهتدى إلى فسادها وبطلانها، فرقى المنبر يوم الجمعة بالمسجد الجامع بالبصرة وقال:

" أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن اللَّه تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم، معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللَّه تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا، ورمى ثوبًا كان عليه ".

والحق أن إعلان الأشعري السابق بضلال المعتزلة عن المنهج القويم في أمور الاعتقاد قد تضمن إشارة إلى أبرز وجوه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وهي: القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وإنكار رؤية اللَّه تعالى، وحرية الإرادة الإنسانية والزعم أن الإنسان خالق أفعاله.

وذهب بعض الباحثين إلى أن العامل الحاسم في تحول أبي الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة إنما هو مذهبه الفقهي الذي كان يتعبد به، وهو المذهب الشافعي، وأمر الخصومة بين الفقهاء -ومنهم الإمام الشافعي- والمتكلمين لا سيما المعتزلة أظهر من أن نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه، فلقد ذم الشافعي علم الكلام وكان يعني بذلك المعتزلة، وهاجمهم في بعض كتبه ولم يقبل شهادتهم، وللشافعي نفسه آراء في الاعتقاد تخالف ما ذهب إليه المعتزلة، فهو يعتقد أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن اللَّه يُرى بالأبصار يوم القيامة، ويقول بالشفاعة، ويؤمن بالقدر خيره وشره.

فلا غرو أن أحس الأشعري بتناقض كبير بين أصول مذهبه الفقهي، وآراء مذهبه

<<  <  ج: ص:  >  >>