أحدهما: قوله - تعالى -: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) أي: لو كان هذا القرآن من عند غير اللَّه، لكان لا يُوَافَقُ بما يخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكن يخبرهم مخالفا لذلك؛ لأن الكهنة، الذين كانوا يدعون الخبر عن غيب، لا يخرج خبرهم موافقا، بل كان بعضه مخالف لبعض مناقض له، فلما خرج هذا ما يخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سرائرهم موافقًا له، دل أنه خبر عن اللَّه تعالى.
والثاني: أنهم كانوا يقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، ونحوه، فأخبر اللَّه - تعالى - أنه لو كان من عند غير اللَّه لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب، بل كان مختلفا متناقضا، فلما خرج هذا القرآن مستويا، موافقًا لسائر الكتب؛ كقوله - تعالى -: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، دل أنه من عند اللَّه نزل.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن هذا القرآن نزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة، فلو كان من عند غير اللَّه نزل - لخرج مختلفًا، مناقضًا بعضه بعضًا؛ لأن حكيمًا من البشر لو تكلم بكلمات في أوقات متباعدة - لخرج كلامه متناقضًا مختلفًا، إلا أن يستعين بكلام رب العالمين، ويعرضه عليه؛ فعند ذلك لا تناقض، فلما خرج هذا - مع تباعد الأوقات - غير مختلف ولا متناقض، دل أنه من عند اللَّه - تعالى - نزل، وباللَّه التوفيق.
وفيه الاحتجاج على الْمُلْحِدَة؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. . .) إلى قوله: (اخْتِلَافًا كَثِيرًا) فلو وجدوا لأظهروا ذلك، وقوله - تعالى -: (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولو قدروا على ذلك لأتوا به؛ دل ترك إتيانهم ذلك: أنهم لم يقدروا على إتيان مثله، ولو وجدوه مختلفًا لأظهروه، ولو كان من كلام البشر -على ما قالوا- لأتوا به؛ لأنهم من البشر؛ فظهر أنه منزل من عند اللَّه، واللَّه الموفق.