أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شأن غيرها من مشكلات القرآن.
وأما أدلة الفريق الثاني:
فاستدلالهم بحديث عائشة استدلال باطل؛ لأن الحديث منكر غريب؛ لأنه من رواية مُحَمَّد بن جعفر الزبيري، وهو مطعون فيه، قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي:" منكر الحديث "، وقال فيه ابن جرير الطبري:" إنه ممن لا يعرف من أهل الآثار ".
وعلى فرض صحة الحديث، فهو محمول -كما قال أبو حيان- على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من اللَّه.
وأما استدلالهم بأن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، فإنه لا يدل على ندرة ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في التفسير؛ إذ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، بمقتضى أمر اللَّه له (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وأما استدلالهم بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ فمردود بأنه لو سلمنا أنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل معاني القرآن، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى.
وإذا علمنا ضعف استدلالات الفريقين، فإنه من الأحرى الرجوع إلى الصواب الذي استراحت إليه النفس من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل القرآن ولكنه في الوقت نفسه ضرب بنصيب وافر فيه مما لا تستغني عنه الأمة في فهم دينها، فقد أجاب على تساؤلات الصحابة فيما أشكل عليهم فهمه من آيات الكتاب الكريم.
وخلاصة القول أن المرحلة النبوية كان لها أثرها البارز في نشأة علم التفسير -بالرغم من أنها مرحلة النشأة- وذلك لأن كلا هذين القسمين -تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة- لا شك في أنهما أعلى أنواع التفسير، ولاشك في قبولهما، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره، وكتاب اللَّه تعالى أصدق الحديث؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.