بعض في المنافع مع جميع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال، بعد أن كانت السماوات والأرض مشبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة، ولا بالذي فيه من أنه من أي وجه يقضي الحاجة؛ ليدل أن مدبر الكل واحد، وأنه عليم حكيم وضع كل شيء موضعه ودل كل ذي عقل على الوجه الذي يظفر بحاجته، ويقيم به أوده، ويصل إلى بغيته، وسخر الذي ذكر، فصير كلا من ذلك جاريا دائبًا بما لا ينتفع هو به، ولا مضرة عليه فيه؛ ليعلم أنه لغيره قدر ولحاجة غيره سير، وكذلك الذي جبل على القرار وأمسك عن الزوال من غير أن كان له في حقيقة أحد الوجهين نفع أو ضرر؛ ليعلم أن تدبير ذلك جرى لا له، ولكن لأهل الممتحنين الذين بهم يظهر العز والشرف ونيل الجود والكرم، ويعظم الملك والسلطان؛ إذ عندهم تمييز الأحوال، وتفريق الأمور، وتوجيه إلى حقه وإعطاء كل ذي فضل فضله. فيعلم من هذا وصفه أنه لم ينشأ عبثًا، ولا خلق باطلًا؛ إذ به يعظم قدر كل خلق، ويشرف جلالة كل جليل، لم يجز إمهال مثله، فيكون خلق الجميع لغير شيء مما في ذلك من فنائه وتبدّده الذي في الحكمة قصد مثله في العقل يوجب العبث ثبت أنه خلق للمحنة ولدار البقاء، لكن جعل البقاء جزاء، والفناء محنة؛ ليكون البقاء هو المنتهى، فيعظم القصد في الابتداء؛ إذ فاسد أن يجعل المحنة للبقاء، فيدل على حاجة الممتحن مع ما في ذلك زوال الجزاء؛ إذ محال تقديمه على ما له الجزاء، واللَّه الموفق.
ثم الأصل أن اللَّه سبحانه جعل العقل جزءًا من عالمه، وجعله دليلًا لأهله في معرفة المساوئ والمحاسن، وعلمًا للتمييز بين الحكمة والسفه، وبين الإتقان والعبث، وجعله بالذي يعرف المحمود من المذموم، والمرغوب فيه من المزجور عنه، فلم يجز أن يكون إنشاء كل العالم على غير الحكمة؛ لأنه سفه، وهو بالذي جزء من العالم يعلم به الذميم من الحميد ثبت أنه أنشئ للحكمة.
وعلى ذلك تقدير كل عاقل على احتمال ما يضره وينفعه بحق الجزاء والمحنة، فثبت أن ذلك للمحنة، وأن المحنة ثم الهلاك بلا جزاء ولا نقع للممتحن عبث -أيضًا- وسفه، فلزم به القول بالبعث وإثبات دارين مما كان لكل شاهد دليل غائب يحمد عليه أو يذم، وكذا فعل كل ذي عقل إنما هو لعاقبة يحمد عليها، أو بفعل عبث فيذم عليه.
فعلى ذلك أمر تدبير هذه الدار من أخرى، فلا يجوز أن يخلي الجملة عن الدلالة، ولا