وكانت له هجرتان: إحداهما إلى مكة؛ حيث أسكن فيها ولده، والهجرة الثانية إلى بيت المقدس؛ وهو ما ذكر:(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. . .) الآية.
ثم قوله:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) هو دعاء بتعريض لا بتصريح، والدعاء بالتعريض؛ والسؤال بالكناية أبلغ وأكثر من السؤال بالتصريح، وهو كدعاء آدم وحواء:(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية، فهذا أبلغ في السؤال من قوله: اغفر لنا وارحمنا؛ لأن مثل هذا قد سئل من دونه؛ ولا يكون فيه ما ذكر فيه من الخسران.
وقوله:(مِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون كلمة (من) صلة؛ أي: أسكنت ذريتي، ويحتمل على التبعيض؛ أي: أسكنت بعض ذريتي، على ما ذكر في بعض التأويلات: إسماعيل وإسحاق.
أحدهما: حرمه أن يستحل فيه ما لا يحل ولا يصلح؛ لكنه خص تلك البقعة بالذكر؛ وإن كان ذلك لا يحل في غيرها من البقاع؛ لفضل الحرمة التي جعلها اللَّه لها، كما خص المساجد بأشياء؛ لفضلها على غيرها من الأمكنة والبقاع.
والثاني: قوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ): أي: الممنوع؛ يقال: حرم: أي: منع؛ كقوله:(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)، ليس ذلك على التحريم ألا يحل له المراضع؛ ولكن على المنع؛ أي: منعنا عنه؛ لنرده إلى أمه، فعلى ذلك قوله:(عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي: الممنوع عن الخلق لله؛ حتى لم يقدر واحد من الفراعنة والملوك الغلبة عليها وإدخالها في منافع أنفسهم، بل هي ممنوعة عنهم؛ على ما كان، وفيه آية الوحدانية له والألوهية. واللَّه أعلم.