للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الاعتزال، وما يلزمهم في قوله: (أَغْوَيْتَنِي) يلزم في قوله: لعنتني؛ لأن اللعن: هو الطرد؛ فإذا طرده عن رحمته - فقد خذله، فالطرد والإغواء والإضلال سواء؛ فيلزم في اللعن ما يلزمهم في الإغواء.

وقال أبو بكر الأصم: الإغواء واللعن من اللَّه: شتم، لكن هذا بعيد، لا يجوز أن يضاف إلى اللَّه الشتم أنه يشتم؛ لأن الشاتم والساب لآخر - في الشاهد بما يشتمه - مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يضاف إلى اللَّه ما به يذم. وأصله: أن قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) يحتمل أنه خلق فعل الغواية منه أو أغواه؛ لما علم أنه يختار الغواية والضلال.

وقوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): كأنه يقول: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزيدن لهم في الغواية بما أغويهم، وقد ذكرنا هذا وأمثاله فيما تقدم.

فَإِنْ قِيلَ: قوله: (أَغْوَيْتَنِي) قول إبليس؛ وهو كاذب بالإضافة إليه. قيل: لو كان فيما أضاف إليه الإغواء كاذبًا لكذبه فيه، ورد عليه قوله، كما كذبه في قوله ورد عليه: أنا خير منه خلقتني من كذا وخلقته من كذا؛ حيث قال: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)، فلما لم يرد عليه؛ ولم يكذبه فيما أضاف إليه حرف الإغواء دل أن إضافة الإغواء إليه، والإضلال حقيقة أو أن يكون قوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) إنما ذلك منه ذكر فضله وإحسانه؛ حيث أخبر أنه خلفه مما هو أفضل وأعظم مما خلق آدم؛ فيخرج ذلك منه مخرج الشكر. وأما قوله: (أَغْوَيْتَنِي) ليس على ذلك، فلا يحتمل ألا يكذبه، ولا يرد عليه قوله إذا كان كاذبًا فيه؛ لأنه فعل شر أضافه إليه، إذا لم يكن منه الإغواء؛ لذلك اختلفا، أو لو كان قول إبليس - لعنه اللَّه - كذبًا فما تصنعون بقول نوح - عليه السلام - حيث قال: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، وقول موسى: (فَلَمََّا زَاغُوا أَزَاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُم).

ثم قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) يحتمل أن يكون منه عزم على ما ذكر، دون أن تفوّه بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنه ما كان عزم؛ من الإغواء وغيره بالقول، وذلك جائز؛ يخبر عن العزم والقصد بالقول؛ كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) لا يحتمل أن يكون هذا القول الذي أخبر عنهم قولا منهم؛ لأنه لا أحد من المتصدقين يقول بمثل ذلك عند

<<  <  ج: ص:  >  >>