وكذلك البر سخر لهم؛ حتى يصلوا إلى ما في باطنه من الأموال والمنافع وظاهره.
والثاني: أن جعلهم بحيث يقضون حوائجهم التي كانت لهم من وراء البحر ووراء البر - ما لم يجعل ذلك لغيرهم من الخلائق - قضاء الحوائج من ورائهما، وذلك معنى تفضيلهم الذي ذكر، ثم ما ذكر على أثر قوله:(كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، هو تفسير تفضيله وإكرامه؛ حيث قال:(وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
وجائز أن يكون ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم - هو ما جعل فيهم من الأنبياء، والرسل، والأتقياء، والأخيار منهم - ما لم يجعل ذلك من غيرهم؛ ألا ترى أن موسى - عليه السلام - قال:(اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الآية.
وقوله:(وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
هو ما ذكرنا: أن جعل أرزاقهم وغذاءهم ما بلغ في الطيب غايته، ولا كذلك غذاء غيرهم من الدواب ورزقهم؛ لأنهم لا يأكلون إلا بعد أن يستخرجوا منه ما فيه من أذى وخبث وخشونة: من النخالة وغيرها، وفي الطبخ والنضج حتى يبلغ في الطيب واللين غايته. وأمَّا غيرهم من الدواب فإنما يأكلون كما هو نيئًا غير مطبوخ ولا نضيج، وفيه من الخبث والأذى.
أما بعض أهل التأويل فإنه قال: فضلناهم على كثير ممن خلقنا: على الجن والشياطين، وأصحابهم غير الملائكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على كثير ممن خلقنا: من الحيوان والدواب، (تَفْضِيلًا): بالأكل بالأيدي، وجعل رزقهم من غير رزق الدواب.
ويحتمل (عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا): ممن على وجه الأرض من الجن وغيرهم؛ لما لم يرسل إلى الجن رسول منهم، ولا أنزل عليهم كتاب على حدة، وما جعل أرزاقهم مما يفضل من البشر من العظام والسرجين وغيره، على ما ذكر؛ فذلك وجه تفضيلهم عليهم.
وأمّا الكلام في تفضيل البشر على الملائكة والملائكة على البشر - فإنا لا نتكلم في شيء من ذلك؛ لما لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ فالأمر فيه إلى اللَّه في تفضيل هَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، ليس إلينا من ذلك شيء، ولا جائز أن يجمع بين أشر البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا اللَّه طرفة عين، فيقال: هم أفضل من الملائكة؛ ولكن إن كان لا بد فإنما يجمع بين الأنبياء والرسل