اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لما خرج ذكرها على أثر سؤال الروح، فدلّ أنه ما ذكرنا، وقد ضل بهذه الآية فريقان: الحشوية، والمعتزلة.
أمّا الحشوية فإنهم يقولون: إن القرآن والكلام هو صفة اللَّه الذي هو لم يزل به موصوفًا، وإنه لا يزايله، ثم إنهم يقولون: القرآن في المصاحف بعينه وهو في الأرض وفي القلوب، فقولهم مناقض؛ لأنه إذا كان صفته لا هو ولا غيره، لا يجوز أن يكون في المصاحف بعينه أو في الأرض أو في القلوب.
قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: أما الذي في المصاحف هذا ما يفهم به ذلك أو ما يوافق به ذاك - أعني: القرآن - ويقال: هذا حكاية عن ذلك.
وأما المعتزلة: فإنهم ينكرون خلق أفعال العباد، ثم يقولون: إن القرآن مخلوق؛ فعلى زعمهم يكون القرآن والكلام ما يكتب ويثبت ويمحى، وذلك فعل العباد، ثم يقولون: أفعالهم غير مخلوقة؛ فذلك تناقض في القول بيِّن.
وعلى قولنا: ما ذكر من الذهاب والمجيء كله على المجاز، أي: الموافقة لا على الحقيقة، كما يقال: سمعت كلام فلان وقول فلان، وكتبت حديث فلان ونحوه؛ فذلك كله على المجاز لا على التحقيق؛ لأنه لا يسمع قول فلان حقيقة ولا كلامه ولا حديثه، ولكن يسمع صوتًا يفهم به قوله وكلامه وحديثه، فعلى ذلك الأول يذهب بالذي يسمع ويكتب، فأما حقيقة ذلك فلا يوصف بشيء من ذلك.
وبعد: فإنه قد أضيف المجيء إلى الذي لا يعرف منه ذلك، ثم يحتمل قوله:(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أن يكون صلة قوله:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) حتى لا يظفر به، وإلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم أنه لو شاء لذهب بالذي أوحى إليه وقادر عليه وله رفعه، وكذلك يعرف هذا كل مؤمن.
وإن كانت الآية على الابتداء فهو يخرج على ذكر المنة والرحمة، أي: له أن يرفع هذا الذي أوحى إليه؛ ليعلموا أن إبقاء النبوة والوحي فضل منه ورحمة، وكذلك الوحي إليه في الابتداء وبعثه رسولًا إليهم فضلًا واختصاصًا لا استحقاقًا منه واستيجابًا، كقوله:(وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله:(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أخبر أن النبوة له وما أرسل إليه اختصاصًا منه وفضلًا، لا استحقاقًا منه؛ فعلى ذلك إبقاء النبوة والوحي رحمة وفضل منه.