خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، فلو جمع بين هذا وبين الأول فهو في الظاهر متناقض؛ إن يذكر في بعضها: أنه لم يخلقهما وما بينهما باطلا لعبًا، ويذكر في بعضها: أن الحياة الدنيا لهو ولعب، وهو خلقهما.
لكن تأويل قوله:(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) على ما تقدرون أنتم وعلى ما عندكم (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)، فأما عند أهل التوحيد وما في تقديرهم فهي حكمة وحق.
ثم ما ذكر من اللهو واللعب عندهم يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم رأوا أنه خلق الإنسان وجعل بدأه من نطفة، ثم حولها إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى الإنسان الذي صور. . . إلى آخر ما حوله؛ فلا يحتمل أن يخلقه ويحوله من حال إلى الأحوال التي ذكر، ثم يفنيه بلا عاقبة تجعل لهم، ولا منفعة؛ فيكون كما ذكر:(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)، صيَّر نقضها الغزل من بعد إحكامها إياه بلا انتفاع به لهوًا ولعبًا؛ فعلى ذلك خَلْقُ الحياة الدنيا، وخلق ما فيها من العالم بعد إحكامه وتحويله حالا بعد حال، وتحويلا بعد تحويل، وإحكامًا بعد إحكام للفناء خاصة على ما يقدر أُولَئِكَ الكفرة بلا عاقبة تجعل لهم أو منفعة - لَهْو ولعب وسفه وباطل؛ على ما ظن أُولَئِكَ وقدروه، فأما في تقدير أهل التوحيد وأهل الإيمان من العاقبة لهم فهو حكمة وحق.
والثاني: معنى اللهو: اللعب الذي ذكر على ما عندهم هو أن الجمع والتسوية بين العدو والولي وبين العاصي والمطيع وبين المخالف والموافق - سفه باطل، وقد سوى بينهم في هذه الدنيا، وأشركهم جميعًا في نعيمها وسعتها وشدتها، وخيرها وشرها، يتمتع الولي فيها كما يتمتع العدو، ويبتلى فيها المطيع كما يبتلى العاصي، فلو لم يكن دار أخرى فيها يفرق بين الولي والعدو، وبين المطيع والعاصي لكان خلقه إياهم في الحياة الدنيا سفهًا وباطلا؛ إذ سوى بينهم وأشركهم جميعًا في هذه.
أو أن تكون الحياة الدنيا - عدى ما اتخذوها هم وعملوا فيها - لهوًا ولعبًا.
أو أن يقال: الحياة الدنيا بحياة الآخرة لهو ولعب؛ لأنها خلقت فانية منقطعة، وخلقت حياة الآخرة باقية دائمة، فهو كما قال:(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ)، أي: متاع الدنيا قليل عند متاع الآخرة، لأن متاع الدنيا فانٍ منقطع، ومتاع الآخرة دائم باقي.
وقوله:(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي: هي دار الحياة، لا موت فيها، ولا انقطاع، ولا فناء (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أن الدار الآخرة هي الدار التي لا موت فيها، واللَّه أعلم.