جعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض وجعل المتقين كالفجار؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز، وقد سوى بينهما في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر، فلو كان على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا حياة، لكان ذلك جمع وتسوية بين الولي والعدو، وفي الشاهد من سوى بين من عاداه وبين من والاه، وجمع بينهما في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه - لو لم يجعل دارًا أخرى يفرق بينهما كان غير حكيم؛ إذ قد سوى بينهما وجمع، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ثم من الناس من يقول: يجب أن يفرق بينهما في الدارين جميعًا في الدنيا والآخرة، وقد فعل حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا وهَؤُلَاءِ مؤمنين، وخذل الكفار، وأذلهم، ووفق المؤمنين وأعزهم؛ وهو قول المعتزلة.
ومنهم من يقول: لا يجب ذا في الآخرة؛ لأن الدنيا دار محنة وابتلاء يمتحن الفريقان جميعًا بالخير مرة والشر ثانيًا، وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى على ما أخبر حيث قال - عز وجل -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وما ذكر:(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ. . .) الآية، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يمتحنهم ويبتليهم بالخير والشر وبالسيئة والحسنة، وذلك للفريقين جميعًا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعًا في الحالين، وأما الآخرة فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة، فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا فيما فيه المحنة والابتلاء، واللَّه أعلم.
وأما قولهم: إنه قد فرق بينهما؛ حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا، وهَؤُلَاءِ: مؤمنين، وخذل هَؤُلَاءِ، ووفق أُولَئِكَ فليس ذلك بتفريق بينهما؛ لأنه إنما سماهم: ضُلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه وصنعوا، أو أمر آثروه على غيره فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون، والله أعلم.
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) - دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك إن مكنوا من العلم وجعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك، وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم ضيعوا معرفة ذلك والعلم به؛ لأنهم لو تأملوا فيه ونظروا، لوقع لهم علم ذلك، لكنهم تركوا علم ذلك، وضيعوه؛ فلم يعذروا في ذلك، وعلى ذلك نقول في القدرة: إن من منع عنه القدرة، وحيل