سؤالهم، وإذا طمعوا ورجوا عند ذلك سألوا ودعوا، هذا هو العرف فيهم؛ فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر، لكن نقول: إن الآية تخرج على وجوه:
يحتمل: أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه يشار إليه سوى الآخر، كان عادة أحدهما -على الإياس والقنوط من الخير- ترك الدعاء والسؤال، وكان عادة الآخر الدعاء والتضرع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه، فأخبر - جل وعلا - رسوله عليه الصلاة والسلام ما أضمر كل واحد منهما: في نفس أحدهما الإياس والقنوت، والآخر الدعاء والسؤال والطمع في الخير؛ ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوة إذ أنبأه عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه؛ ليعلم أنه رسول، وإنما علم ذلك باللَّه جلا وعلا، واللَّه أعلم.
والثائي: أن الكفرة كانوا فرقا، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة:
فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة، وتيأس وتنقلب في حال البلاء والشدة؛ كقوله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ. . .) الآية.
وفرقة كانت تفزع إلى اللَّه تعالى وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء، وتعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم؛ نحو قوله تعالى:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ. . .) الآية، ونحوه كثير في القرآن.
وفرقة كانت في الحالين جميعا على الإعراض عنهم، وترك الإقبال إليه والطاعة له، لا يفزعون ولا يقبلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة؛ كقوله:(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم، وإذا صارت سيئة وشدة تطيروا بالرسل عليهم السلام؛ كقوله تعالى:(فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) وقوله تعالى: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ).
وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة وكانت أجناسا شتى، فيكون كل آية منهما في جنس غير الجنس الآخر، وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر، فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعًا على التوحيد والإقبال إلى اللَّه تعالى في حال الرخاء والسعة، وفي حال البلاء والشدة، وهو على ما استثناهم اللَّه تعالى عند ذكر الكفرة؛ حيث قال:(إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقوله تعالى:(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية، وأمثال ذلك من الآيات، وصفهم - جل وعلا - بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها، واللَّه أعلم.