ومن الناس من يقول:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم الدِّين، ويجعل (مِن) صلة زائدة فيه؛ أي: شرع لكم الدِّين الذي وصى به نوحًا ومن ذكر، والوجه فيه ما ذكرنا.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى تخصيص نوح ومن ذكر من الأنبياء هنا، والكل بعثوا للدعاء إلى هذا الدِّين، وقد وصى الكل بهذا الدِّين.
فنقول: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خص نوحًا ومن ذكر بهذا؛ لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام، وإنما جاء ذلك في زمن نوح؛ لذلك خصَّ نوحًا بما ذكر.
ويحتمل أن يكون ذكر هَؤُلَاءِ لا على تخصيصهم بذلك من بين غيرهم من الأنبياء، ولكن ذكر بعضًا هاهنا، وترك ذكر البعض، ليس أنه شرع له ما وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء ولم يشرع له ما وصى به غيرهم؛ بل شرع له ما وصى به هَؤُلَاءِ وغيرهم من الدِّين، كقوله - تعالى -: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، ذكر بعض هَؤُلَاءِ وغيرهم، ثم أمره أن يقتدي بما هم عليه؛ دل أن ذكر البعض في موضع ليس للتخصيص، لما ذكر البعض في موضع آخر، والكل في موضع آخر، واللَّه أعلم.
ويحتمل تخصيص هَؤُلَاءِ بالذكر لمعنى لم يطلعنا اللَّه على ذلك المعنى، كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لقوله:" كما صليت على إبراهيم " لمعنى لم يطلعنا على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله:(وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يحتمل وجهين:
أحدهما:(وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، أي: في عبادة اللَّه - تعالى - أي: اعبدوه جميعًا.
والثاني:(وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: في الدِّين الذي ذكر، وهو التوحيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عليهم دعاؤكم إلى التوحيد وعبادة اللَّه وحده.
وقوله:(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) هذا ينقض على المعتزلة: إنه - تعالى - أخبر أنه يجتبي إليه من يشاء، ولو كان على ما يقوله المعتزلة أنه قد أعطى الكافر جميع ما أعطى المؤمن، فالمؤمن حيث صار مجتبى مصطفى مختارًا إنما كان منه بفعله لا من اللَّه - تعالى - وقد أخبر أنه هو يجتبي من يشاء، وهو يهديه؛ فبطل قولهم.
وقوله:(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: هو يهدي من يطلب منه ما به يكون الهدى، وهو التوفيق؛ أي: ما لم يطلب منه ذلك ولم يسأل فإنه لا يهدي به ولا يوفقه.