احتمل الوجهين فلا تكون الآية حجة لهم مع الاحتمال، وعلى الوجهين جميعًا يكونون كاذبين؛ لذلك قال:(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، واللَّه أعلم.
والثاني: أنهم وإن كانوا صادقين في ذلك فهم ربما قالوا ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الجد؛ فيكون قصدهم تلبيس الصدق على الناس ورده، كقوله - عز وجل -: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)، وهذا القول من هذا الإنسان حق وصدق، لكن إنما قال ذلك استهزاء منه وإنكارًا للبعث؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - وعظه على ذلك وذكره، حيث قال:(أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)، فعلى ذلك قول أُولَئِكَ وإن كان في الظاهر صدقًا فهم إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية على سبيل الإنكار وتلبيس الحق؛ فيكون إخبارهم من هذا الوجه ولهذا الغرض خرصًا وكذبًا، واللَّه أعلم.
والثالث: غرضهم بذلك الاحتجاج على المسلمين في توعيدهم بالعذاب بسبب العناد والكفران كيف نعذب وإنما باشرنا الكفر بمشيئته، ولو شاء أن نترك العبادة للأصنام تركنا فإذا كان شاء منا الكفر حتى كفرنا لماذا عاقبنا؟ فأبطل احتجاجهم بقوله - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: هم جاهلون في الاحتجاج بهذا، كاذبون في أنهم باشروا الكفر بسبب مشيئة اللَّه - تعالى - إياهم الكفر، ولكن لسوء اختيارهم، وأسباب حاملة لهم على ذلك، وأصله: أن لا أحد من العصاة والفسقة والكفرة يفعل وعنده أن اللَّه - تعالى - شاء ذلك منهم، فإذا كان وقت فعله لا يفعل ما يفعل؛ لأن الله تعالى شاء ذلك منه لم يكن له هذا الاحتجاج والقول الذي قالوا، واللَّه الموفق.
والرابع: يحتمل أنهم يقولون: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، وقولهم:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، أي: لو أمرنا اللَّه - تعالى - بترك عبادتنا أُولَئِكَ الأصنام ما عبدناهم، لكن أمرنا أن نعبدهم، كانوا يدعون أنما يعبدون لأمر من اللَّه - تعالى - كقوله:(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
أو أرادوا بالمشيئة: الرضا؛ يقولون: لولا أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنا وعن آبائنا، وإلا ما تركنا وهم على ذلك؛ فاستدلوا بتركهم على ما اختاروا على أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنهم، فردّ اللَّه - سبحانه وتعالى - بقوله:(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وبقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ. . .) الآية، وقد ذكرناه على الاستقصاء في قوله - تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا. . .) الآية، واللَّه أعلم.