للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والثاني: يقولون: إن كان يعذب عيسى وغيره الذين عبدوا دونه فالأصنام التي نعبدها نحن لا تعذب؛ لأنها خير من أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.

فنقول: إنما يكون لهم هذا الاحتجاج بالآية؛ أن لو كانت الأصنام إنما تحرق في النار تعذيبًا لها، أعني: الأصنام؛ فأما إذا كانت الأصنام إنما تحرق بالنار تعذيبًا لمن عبدها، وعقوبة لمن اتخذها أربابًا دون اللَّه فلا، وإنما تحرق الأصنام التي اتخذوها من الحجارة والحديد والصُّفْر؛ لزيادة تعذيب العبدة؛ كقوله - تعالى -: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، مع أنه لا جناية من الأصنام، ولا ضرر لها بالإحراق؛ فكيف يحرق عيسى ومن عبد دونه من الملائكة، وفي إحراقهم تعذيبهم؛ إذ هم يتضررون بها، ولا جناية منهم، فإذا كان إدخال الأصنام التي عبدوها وإحراقها في النار لتعذيب أُولَئِكَ الذين عبدوها فلا معنى لتلك الخصومة والمجادلة التي كانت منهم، واللَّه أعلم.

وبعد: فإن في الآية بيانًا على أن الذي ذكر من جعل المعبود حصبًا للنار راجع إلى عبادة الأصنام والأوثان خاصة دون غيرهم؛ لأنه خاطب أهل مكة بقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية، وأهل مكة كانوا لا يعبدون إلا الأصنام والأوثان، لا عيسى ولا غيره من البشر والملائكة، فذلك لهم ولكل عابد الأصنام دون غيرهم من المعبودين؛ استدلالا بهم، واللَّه أعلم.

على أن في الآية بيانًا - أيضًا - أنه لم يرجع إلى ما ذكروا من عيسى وغيره، فإنه قال: (وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكلمة " ما " تستعمل في غير العقلاء من الجمادات وغيرها، لا في ذوات العقلاء.

وعلى أن في الآية بيانًا من وجه آخر - أيضًا - على أنهم غير مرادين بها، فإنه استثنى وخصّ بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، أخبر أن من سبقت له منه الحسنى يكون مبعدًا عنها، ولا شك أن عيسى والملائكة - عليهم السلام - قد سبقت لهم منه الحسنى، فلا يحتمل صرف تلك الآية إليهم، واللَّه أعلم.

ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية

، إلى كل من منه الأمر بالعبادة لهم والدعاء إلى ذلك، وهم الشياطين؛ لأن من عبد دون اللَّه أحدًا إنما يعبده بأمر الشياطين ودعائهم إليه، فأما من كان يتبرأ من الأمر لهم بذلك وعبادتهم له فلا يحتمل، وذلك نحو قوله - تعالى -: (يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقال إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)

<<  <  ج: ص:  >  >>