ثم هاتان الآيتان تنقضان على الكرامية مذهبهم في أن الإيمان لا يكون بالقلب، ولكن باللسان والقول، فإن أهل النفاق قد قالوا ذلك بلسانهم، ثم أخبر أنهم لم يؤمنوا، وهم يقولون: بل قد آمنوا.
وفي هذه الآية آية عظيمة على رسالته؛ حيث قال له:(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) وقد قال لهم - عليه الصلاة والسلام - ذلك، ولم يتهيأ لهم إنكار ذلك القول، فعرفوا أنه باللَّه عرف ذلك، ولم يظهروا ما في ضميرهم خوفًا من السيف ليعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) جائز أن تكون الآية صلة ما ذكر في سورة الفتح للمنافقين بعد تخلفهم عن أمر الحديبية مع المؤمنين؛ حيث قال:(سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وما ذكر من أمرهم في غير آي من القرآن، يقول:(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: إن تطيعوا الله ورسوله فيما يدعوكم الرسول إلى الخروج إلى الجهاد والقتال بعد تخلفكم عن الحديبية لا ينقصكم من أعمالكم التي كانت لكم شيئًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل وإن تطيعوا اللَّه ورسوله بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يلتكم من أعمالكم شيئًا، أي: لم ينقصكم من أعمالكم التي عملتموها من قبل، ولم تضلوا أعمالكم التي عملتم من بعد، وإن عصيتموه وتخلفتم عنه في حياته؛ لأنه قال:(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، قد كان نهاهم عن الخروج معه للغزو أبدًا، فيقول: إن تطيعوا بعد وفاته وتجاهدوا في سبيل اللَّه لم يلتكم من أعمالكم شيئًا؛ بل يقبل ذلك منكم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون في المنافقين، فيكون فيها وعد المغفرة للمنافقين إذا تابوا وأطاعوا اللَّه ورسوله، كما وعد المغفرة لجميع الكفرة إذا تابوا عن الكفر بقوله:(إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فعلى ذلك هذا، وهو كقوله تعالى:(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، واللَّه أعلم.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في جميع المؤمنين: إن من أطاع اللَّه ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئًا؛ أي: لا يضيع أعمالكم؛ بل يثيبكم؛ كقوله - تعالى -: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)، أي: من عمل لله لا يضيع، ومن عمل لغيره قد يضيع، فلا يظفر