أحدها: أن اللَّه تعالى قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول؛ لأنه إنما يحسن إليها، استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك، فذلك نوعه نوع الفعل؛ فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال؛ فلذلك قلنا: إنه إذا رأجعها بالفعل يكون مراجعًا؛ فَإِنْ قِيلَ: أليس قال اللَّه تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والإشهاد على الفعل غير صحيح؟
فجوابه أن يقال: إن اللَّه تعالى قال: (وَأَشْهِدُوا)، ومعلوم أن هذا لو كان بحضرة الشهود، لم يكن للإشهاد معنى، بل إذا سمعوا ذلك، صاروا شهداء أشهدوا أو لم يشهدوا، وإذا كان كذلك، ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم، وذلك في الأفعال مستقيم، واللَّه أعلم.
ووجه آخر: وهو أن كل عقد استقام بغير شهود جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، وكل ما جعل الشهود فيه شرطا لقوام العقد، جرى الذكر فيه " لا. . . إلا " بشهود، نحو قوله:" لا نكاح إلا بشهود "، فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد بقوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ثبت أنه يستقيم من غير شهود، واللَّه أعلم.
ثم في قوله:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) دليل على أن المراد من الأقراء هو الحيض؛ فإنه ذكر نوع هذا في كتاب اللَّه في مواضع؛ قال اللَّه تعالى في موضع:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقال في آية أخرى:(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، وقال في هذا الموضع:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ومعلوم أن معاني هذه الألفاظ مختلفة وإن اتفقت مخارجها، واختلافها: أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد النوعين على التمام وانقضاء الأجل، والثاني على الإشراف عليه، وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ هو ما يرجع إلى الأزواج؛ لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل، وهم أحق بهن ما لم يتم بلوغ الأجل لا بعده، وإذا ثبت أن المعنى من قوله:(فَإِذَا فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) في هذا الموضع هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل دون التمام، ثبت أن الأقراء: هي الحيض؛ لأنه لو كان المراد منها الأطهار لم يعرف إشراف الأجل