كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال، ويأتي به من الأقوال.
وفي قوله:(الْحَكِيمُ) دعاء إلى التسليم بحكم اللَّه تعالى؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه على وجه الحكمة فيه أو جهله.
ثم الأصل بعد هذا: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبيح له نكاح التسع، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن جميعًا، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع؟! فكانت المحنة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر النساء أعسر منه على غيره، وأمر مع هذا أيضًا بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة، ولكن اللَّه تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ما خف بها عليه هذه المحنة، وسهل عليه المعاملة مع الجملة، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل:(عَبَسَ وَتَوَلَّى)، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له:(فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وقال:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه، فكادت نفسه تهلك فيه.
ثم في قيامه - عليه السلام - بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالةُ نبوته ورسالته؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفْتُرون عن إيفاء حقوق الأربع، وقد كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آثر الزهدَ في الدنيا، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه اللَّه - تعالى - عليه وأقدره، لا بالحيل والأسباب، ثم أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امتُحِنَ بالقيام بوفاء حق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع [صوتها] على صوت زوجها، إذا لم يكن له امرأة سواها، فكيف إذا كانت معها أخرى، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب ذلك إحباط عملهن؛ على ما قال تعالى: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ