عنه عمدا لذلك، لكن لما قطع عليه حديثه، وكان فيه قطع رجاء إسلام أُولَئِكَ القوم، شق ذلك عليه، واعتراه من ذلك هم شديد، أثر ذلك في وجهه، لا أن كان منه ذلك على القصد.
ووجه آخر: أن يقال: إن اللَّه - تعالى - جعل في قلبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين اللَّه - تعالى - والإيمان به حسرات عليه، وحتى قيل له:(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقال:(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، وقال:(فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ).
وتأويله: ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة؛ ولذلك قال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، ومعناه - واللَّه أعلم -: ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه لك الانتفاع به؛ طلبا لمرضاتهن، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله:(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) الآية، فجائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اشتد عليه إعراض أُولَئِكَ القوم عن الإيمان، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه؛ فظهرت عبوسة وجهه؛ فنزل قوله - تعالى -: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له.
ثم في هذه الآية فوائد أخر:
إحداها: جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعل هذا النوع من العمل اجتهادا، لا نصا؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به.
فَإِنْ قِيلَ: كيف لا تدل المعاتبة على النهي عن إقدامه على مثله؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟
قيل له: لو كان هذا نهيا، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك، وقد وجد منه - عليه السلام - العود؛ لقوله:(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، وبقوله: