للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصناعة، وقد فاوتَ الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوتَ بين قوى الأبدان، فلا يحسُن في حكمته وعدله ورحمته أن يَفرِض على جميع خلقه معرفةَ الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقِها وجليلِها؛ ولو كان كذلك لتساوتْ أقدامُ الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالمًا، وهذا متعلّمًا، وهذا متبعًا للعالم مؤتمًّا به، بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع. وأين حرَّم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعًا للعالم مؤتمًّا به مقلّدًا له، يسيرُ بسيرِه وينزل بنزوله؟

وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كلَّ وقت نازلةٌ بالخلق، فهل فرض على كلّ منهم فرضَ عينٍ أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكانٍ فضلًا عن كونه مشروعًا؟ وهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا البلاد، وكان الحديثُ العهدِ بالإسلام يسألهم فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يُعرف ذلك عن أحدٍ منهم البتَّةَ. وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر. [١٢/ب] والمنكرون له مضطرُّون إليه ولا بدَّ، وذلك فيما تقدَّم بيانه من الأحكام وغيرها.

ونقول لمن احتجَّ على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتَها فأنت مقلِّدٌ لحَمَلَتِها ورواتها؛ إذ لم يقُمْ دليل قطعيٌّ على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامّي إلا تقليد العالم، فما الذي سوَّغَ لك تقليدَ الراوي والشاهد ومَنَعَنا من تقليد العالم؟ وهذا سمع بأذنه ما رواه، وهذا عقَلَ بقلبه ما سمعه، فأدَّى هذا مسموعَه، وأدَّى هذا معقولَه، وفُرِض على هذا تأديةُ ما سمعه، وعلى هذا