للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال شيخنا (١): وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وموسى، وإنما فعلوا ذلك تأويلًا واحتيالًا، ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا ــ والله أعلم ــ مُسِخوا قردةً، لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفي بعض ما يُذكر من أوصافه شَبَهٌ منه، وهو مخالف له في الحدّ والحقيقة، فلما مَسَخ أولئك المعتدون دينَ الله بحيث لم يتمسّكوا إلا بما يُشبِه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله قردةً تُشبِه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وِفاقًا.

يقوّي (٢) ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل، وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه، ولم يُعاقَب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحلّ الحرام بالحيلة؛ لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرمًا كانت عقوبتهم أعظم، فإنهم بمنزلة المنافقين، يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم. بخلاف من أكل الربا وأموال الناس والصيد المحرم عالمًا بتحريمه؛ فإنه يقترن بمعصيته اعترافُه بالتحريم وخشيتُه لله واستغفارُه وتوبتُه يومًا ما، واعترافه بأنه مذنب عاصٍ، وانكسار قلبه من ذلِّ المعصية، وإزراؤه (٣) على نفسه، ورجاؤه لمغفرة ربه له، وعدُّ نفسِه من المذنبين الخاطئين، وهذا كله إيمان يفضي بصاحبه إلى خير، بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله. ولهذا حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من ارتكاب الحيل، فقال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلُّوا


(١) في «بيان الدليل» (ص ٤٣).
(٢) الكلام مستمر لشيخ الإسلام.
(٣) في المطبوع: «ازدراؤه»، خلاف النسختين.