النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمتْ أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتةَ بين أن تعلم أنه لا عقوبةَ عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبةً وأن لها إسقاطَها بأدنى الحيل.
ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة والٍ أو أميرٍ يأخذ على يد الجُناة ويكفُّ شرَّهم عن الناس إذا لم يمكن أربابَ الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائقِ ما بعث الله به رسوله؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ، كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدُّون بالرائحة وبالقيء وبالحبل وبظهور المسروق عند السارق، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهلَ التُّهم، ولا يقبلون الدعوى التي تكذِّبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون [٦٢/ب] أربابها، ويحبِسون في التُّهم حتى تتبيَّن حالُ المتَّهم، فإن ظهرت براءته خلَّوا سبيله، وإن ظهر فجوره قرَّروه بالعقوبة اقتداءً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمةٍ وعاقب في تهمةٍ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مِن ذكرِ ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناءِ ما جاء به عن كل والٍ وسائسٍ، وأن شريعته التي هي شريعته لا يُحتاج معها إلى غيرها، وإنما يَحتاج إلى غيرها من لم يُحِط بها علمًا أو لم يقم بها عملًا.
والمقصود أن ما في ضمن المحرَّمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع أن يشرع إليها التحيل بما يبيحها ويسقطها، وأن ذلك مناقضة