وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما، بجعل الظن ليوسف، فإن كان الذي ظن، هو ذلك الرجل؛ فكان الظن في موضع الظن؛ وإن كان الظان هو يوسف - فهو علم ويقين؛ أي: علم وأيقن أنه ناج منهما؛ لأنه لا يحتمل أن يشك فيما يعبر وقد علمه اللَّه تأويل الأحاديث بقوله:(وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) وقال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف؛ أي: وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه، وهو على التقديم والتأخير.
قال بعض أهل التأويل: إن يوسف لما فزع إلى غير اللَّه وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه اللَّه فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير اللَّه؛ ويدفع قلبه عن اللَّه ويشغله بمن دونه، لكنه رأى - واللَّه أعلم - أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل سبب نجاته على يديه، وأنه بقي فيه منسيًّا؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن، سوى الاعتذار إلى الناس، والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت به زوجته، أو لينقطع ذلك الخبر عن ألسن الناس، ويبعد عن أوهامهم، فرأى أنه إذا ذكره؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن اللَّه.
وهكذا جعل اللَّه تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب.
وعلى ذلك تعبّد عباده؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من اللَّه؛ نحو: ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك، وإنما يحاربون باللَّه، وبه يقاتلون، ومن عنده يُنصرون.
وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب؛ فقال:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير اللَّه، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب؛ بل رأى ذلك كله من اللَّه ومن عنده؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله، ورأى نجاته من عند ذلك، ولكن للوجه الذي ذكرناه. واللَّه أعلم.