قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.
وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه:
أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهم) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.
والثاني: في قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة؛ فلا خوف عليهم في ذلك.
والثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا لَا يَحُجَّنَ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ " وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال:(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ونلاحظ -هنا- أنه يعترض على أسلافه، ويذهب بعيدًا عنهم في اختياره، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها.
وأحيانًا نجد الماتريدي يطرح أقوالاً للمفسرين السابقين، ويذكر المعنى الذي يرتضيه، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى، ويردها، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم، فمثلاً عند قول اللَّه تعالى:(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول: " ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم، يعني إلى المنافقين، فقالوا: قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى، فكانوا يحلفون للأنصار: واللَّه ما كان شيء من ذلك، فأكذبهم الله فقال:(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) وما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة ".
ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول: " والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول اللَّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللَّه، فاعتذروا إليهم، وحلفوا على ذلك؛ ليرضوهم، فقال:(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة، ولكن ليسوا بمؤمنين ".