فلما سمعت سلمى امرأة سعد ذلك، رقت له فخلت سبيله، وأعطته الفرس، فقاتل قتالا عظيما، وكان يكبر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصف الناس قصفا منكرا.
فعجب الناس منه، وهم لا يعرفونه، ورآه سعد وهو فوق القصر ينظر إلى القتال ولم يقدر على الركوب لجراح كانت به وضربان من عرق النسا، فقال: لولا أن أبا محجن محبوس لقلت: هذا أبو محجن، وهذه البلقاء تحته.
فلما تراجع الناس عن القتال، عاد إلى القصر وأدخل رجليه في القيد، فأعلمت سلمى سعدا خبرا أبي محجن، فأطلقه، وقال: اذهب لا أحدك أبدا.
فتاب أبو محجن حينئذ، وقال: كنت آنف أن أتركها من أجل الحد.
قيل إن ابنا لأبي محجن دخل على معاوية، فقال له: أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة … تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني … أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها؟
فقال ابن أبي محجن: لو شئت لقلت أحسن من هذا من شعره.
قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تسأل الناس عن مالي وكثرته … وسائل الناس عن حزمي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم … إذا تطيش يد بالرعديدة الفرق
قد أركب الهول مسدولا عساكره … وأكتم السر فيه ضربة العنق
أعطي السنان عداة الروع حصته … وعامل الرمح أرويه من العلق
عف المطالب عما لست نائلة … وإن ظلمت شديد الحقد والحنق
وقد أجود وما مالي بذي فنع … وقد أكر وراء المحجر الفرق
قد يعسر المرء حينا وهو ذو كرم … وقد يثوب سوام العاجز الحمق
سيكثر المال يوما بعد قلته … ويكتسي العود بعد اليبس بالورق
فقال معاوية: لئن كنا أسأنا القول لنحسنن الصفد.
وأجزل جائزته.
وقال: إذا ولدت النساء فلتلدن مثلك، وقيل: إن ابن سعد قال: إن أبا محجن مات بأذربيجان، وقيل: بجرجان.
أخرجه الثلاثة.