للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقدير الله تعالى وخلقه للخير والشر]

[قال الشيخ: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته، والإيمان به، والإذعان لله عز وجل، والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه -أي: قبل أن يكون، فالله تعالى علمه في الأزل- ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافاً لمشيئته فيهم، فكان ما شاءوا ولم يكن ما شاء الله، ومن قال ذلك فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله].

أي: من يتصور أن الكفر وقع منه على مشيئته وليس على مشيئة الله، وأن المعصية وقعت منه بمشيئته وليست على مشيئة الله، وأن الطاعة والإيمان وقع منه بالخيار وبمشيئته دون مشيئة الله وقدرته وإرادته فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولا يكون في كونه إلا ما أراد وقدر وشاء من خير وشر، وكما أن الله تعالى خلق الخلق فهو كذلك خالق الشر، لكنه خلق الشر ونهانا عنه ولم يرضه لعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، فهو سبحانه قد نهانا عنه وحذرنا منه، ولأهله خلق النار، لكن كما قلنا فإن كثيراً من الناس يفرقون بين إرادة الله ومشيئته الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، والمشيئة والإرادة الكونية القدرية التي تضم الخير والشر، إذ ما من خير على الأرض إلا وقد أراده الله وقدره وشاءه مشيئة شرعية دينية وأحبه وأمر العباد به، وأما ما يقع في الأرض من شر فلا يقع إلا بمشيئة الله، لكن بمشيئته الكونية القدرية، وليس بلازم أن الله تعالى يحبها، بل من الأفعال التي تقع في الأرض بمشيئته الكونية القدرية منها ما هو خير ومنها ما هو شر، فلا تبنى المحبة أو فلا تبنى المشيئة الكونية القدرية على المحبة.

وإنما فيها ما يحبه الله، وفيها ما يبغضه الله من الكفر وسائر المعاصي، لكنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله وقدر، ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن الله تعالى إذا كان قد قدر الخير والشر، وجبر الخلق عليه، وقهرهم على فعل الشر والتلبس بالكفر، إذاً فلم يعذبهم ولم يعاقبهم؟ هذا الكلام من أبطل الباطل، وقد رددنا عليه مرات، لكننا نذكر به دائماً حتى لا يدور في خلدات أحد من السامعين أن الله تعالى قدر المعصية على العبد، وجبره وقهره عليها، وأن العبد مسلوب الإرادة، وقد قلنا من قبل في الجواب عن هذا السؤال أو على هذا الوهم: أن الله تعالى له مشيئة، وللعبد مشيئة، فهو ليس مسلوب الإرادة، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:٦٧]، فأثبت في هذه الآية للعبد إرادة، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [التكوير:٢٩]، فأثبت في هذه الآية أن للعبد مشيئة، على خلاف وقع بين أهل العلم: هل المشيئة هي الإرادة أو أنهما شيئان مختلفان؟ ليس هذا أوان بحثه، وقد بحثناه من قبل أيضاً.

لكن الله تعالى خلق الشر ونهانا عنه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعلنا عقلاء مميزين وعفا عن المجانين والنائمين والناسين أصحاب الأعذار، والله تعالى لا يحاسب إلا من وقع تحت طائلة التكليف، ومعنى أن الله تعالى قدر علي الشر أو قدر علي المعصية: أنه علمها أزلاً فكتبها في اللوح المحفوظ، والتقدير هنا بمعنى العلم والكتابة، والله تعالى أذن في خلقها وفي إيجادها، فالله تعالى أذن فيها خلقاً وإيجاداً، واكتسبها العبد فعلاً وعملاً.

فهذا معنى أن الله تعالى أراد وقدر الشر، أي: أنه علمه أزلاً قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ.