[وصية عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أوصيك بتقوى الله والاتباع وعدم الابتداع)]
[وقال سفيان: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله] أي: بعض طلابه وأنصاره: [أوصيك بتقوى الله]، وهكذا كانت وصية الله للأنبياء والمرسلين، وهي وصية الأنبياء بلغتهم وأخلاقهم.
قال: [أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره].
أي: أخذ الدين شيئاً فشيئاً؛ لأن من أخذ العلم جملة فاته جملة، ولابد أن تعلم أن هذه سنة الله تعالى في طلب العلم، شخص الآن يأتي يريد أن يحصل على شهادة من شهادات الدنيا، يصبر على الدراسة في الجامعات والمدارس عشرين عاماً حتى يحصل عليها، وبعد أن يحصل عليها ربما لا تنفعه، ومع هذا تجده صابراً محتسباً، وربما صابراً غير محتسب، وفي طلب العلم الشرعي ربما يطلب العلم شهراً أو شهرين ثم يتطرق إليه الملل والنفرة، وإذا أشكل عليه علم من العلوم تجده ينصرف عنه بكليته ولا يختاره ولا يدرسه، كعلم أصول الفقه، أو علوم اللغة، أو علم مصطلح الحديث، فهذه علوم جافة تحتاج إلى تفصيل، فهب أنه رزق بأستاذ أو بشيخ لا يحسن التفصيل فتجده ينصرف ولا يثبت، وهو في الجامعة يدرس مواد لا قبل له بها ولا طاقة، ومع هذا يصبر عليها؛ لأنه قد وضع نصب عينيه أن يحصل على بكالوريوس كذا، ولا سبيل له إلى الحصول عليه إلا أن يصبر على المر في سنوات دراسته.
إذاً: فعلوم الشرع أولى بذلك كله، ولا سيبل لك إلى الاستقرار في العلم الشرعي إلا بطلب السهل والعسير، والصبر عليهما على السواء.
فقال: أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره.
أي: أن تأخذه شيئاً فشيئاً.
شخص يقول لك الآن: أن لا أفهم شيئاً من الحديث، فإنه يقول: عن وعن وعن ما هذا؟ فحتى أصل إلى قائل القول أكون قد نسيت الأول، ثم تجده ينصرف إلى أصول الفقه، فيجد أن هذا العلم هو عبارة عن طلاسم وكلام غير مفهوم، وهو أشبه بالسحر، هكذا يعبر عن علم أصول الفقه، ثم يتركه وينصرف إلى علم الاعتقاد، فيجد الشيخ الذي يدرس المادة يدخل في تفصيلات وفرعيات الفلاسفة، فيقول: لا يمكن أن يكون هذا ديناً، ثم ينتقل إلى العلم الرابع والخامس، ثم ينتقل من المسجد إلى الشارع، ومن الشاعر إلى المقاهي، ومن المقاهي إلى النساء، ومن النساء إلى الخمور وهكذا، لابد أن ينتهي به الأمر إلى الانحراف؛ لأنه لم يصبر ولم يحتسب في أمر الله، بل لابد أن يأخذ العلم قليلاً قليلاً.
ولذلك يقول الإمام الزهري: العلم نتف -يعني: قليلاً قليلاً- فمن رامه جملة -أي: فمن طلبه دفعة واحدة- فاته جملة.
فالذي يحفظ عشر آيات في اليوم أو خمس آيات يستطيع أن يحفظ في الغد مثلها، ويستطيع أن يحفظ بعد الغد مثلها، ويتقن الآيات في كل يوم ولا ينساها، أما من يحفظ ربع جزء أو ربعين أو ثلاثة أرباع أو نصف جزء أو جزءاً فإنه سرعان ما ينساه في الغد وفي الباكر مباشرة، فإذا أراد أن يحفظ شيئاً آخر وضم محفوظ اليوم إلى محفوظ الأمس وكان قدراً كبيراً لا يستطيع أن يحفظ بعد الغد جملة مستكثرة كما كان يحفظ في الأمس أو قبل الأمس.
فالعلم لابد أن يؤخذ قليلاً قليلاً، وقد ثبت عن كثير من السلف أنه حفظ القرآن في ثلاثة أشهر، بل قد جاء عن بعض السلف أنهم حفظوا القرآن من قراءتين -أي: من مراجعتين- أو ثلاث مراجعات عن ظهر قلب، لكن هدي السلف ليس كذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون العشر الآيات، ثم لا يتجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من أحكام وآداب وأخلاق ويعملون بكل هذا، ثم ينتقلون إلى عشر آيات أخريات، هذا منهج السلف في طلب العلم، أما من جلس مجلساً وقد شعر بنشاط وحيوية فيريد أن يحفظ ثلاثة أرباع أو أربعة أرباع من سورة البقرة في يوم واحد، فإنك فقط لو سألته عن معنى آية لا يعرفها، ولا يحل له أن يتكلم في معناها بغير علم مما ورد من كلام المفسرين، ثم هو في اليوم الثاني يكسل أن يراجع هذه الآيات، لماذا يكسل؟ لأنه قد أنهك نفسك بالأمس، فلم تبق عنده قدرة ولا طاقة ولا قوة كما كانت عنده بالأمس، فالعلم يا إخواني! نتف يؤخذ شيئاً يسيراً فشيئاً يسيراً؛ حتى يتمكن المرء من علمه.
ولذلك يذكر عن الشعبي والأوزاعي وغيرهما أنهم كانت تعقد لهم مجالس الحديث بالآلاف المؤلفة، حتى إنه كان يحضر للواحد منهم ثلاثون ألفاً، فيحدث بالحديث والحديثين والثلاثة، فإذا قيل له: حدثنا بالرابع أو الخامس، يقول: لا والله.
لقد أكثرت عليكم، تصور أن ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً يحضرون مجلس العلم، ثم لا يقومون منه إلا بثلاثة أحاديث، هل هذا قليل؟!
الجواب
ليس قليلاً، فقد كان الواحد من الصحابة يرحل للحديث الواحد من المدينة إلى مصر، ومن المدينة إلى الشام.
قال: [أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما قد جرت به سنته، وكفوا مئونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها]، إلا قدم عليها دليلاً أنها بدعة وأنها ليست من دين الله، [فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، واعلم أن من سن السنن قد