[صفات المنافقين في أجسامهم وكلامهم]
قال: تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه.
يعني: يحلف لك أيماناً مغلظة على صحة قوله من غير أن تطالبه باليمين، بل هو يتبرع به ابتداء.
لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:٢]، يعني: وقاية وستراً.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:٢] يعني: تباً لهم، برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا، وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم، فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا، فكيف حالهم عند اللقاء -أي: لقاء الله عز وجل- وقد عرفوا ثم أنكروا، وعموا بعدما عاينوا، وأبصروا الحق وأنكروه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٣].
وهم كذلك أحسن الناس أجساماً، وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخبثهم قلوباً، وأضعفهم جناناً، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:٤].
ومن علاماتهم: أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب، إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، ولا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان.
إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، لا يفرحون بذلك.
وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، كما قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:١٢٠] كره الله طاعتهم، يعني: الله تعالى لا يحب منهم الطاعة؛ بل يكرهها لخبث قلوبهم وفساد نياتهم، فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجواره؛ لميلهم إلى أعدائه، فطردهم عنه وأبعدهم، وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم، وأشقاهم وما أسعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:٤٦].
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم، فقال وهو أحكم الحاكمين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:٤٧].
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها، وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها، ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم، وضرب لعباده أمثالهم، واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، يعني: أن المنافقين باقون إلى قيام الساعة.