[بيان أن التنطع والتعمق مهلكة لصاحبه]
قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)].
قال الخطابي: (المتنطع: هو المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم).
يعني: كأن يسأل شخص عن دقيقة من دقائق المسائل التي لا ينبغي أن تخطر على بال أحد، ومع هذا هو غير متفقه في أصول دينه، لا في أصول الإسلام: من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وحج، ولا في أصول الإيمان: من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا الإيمان بملائكته والأنبياء، والجنة والنار، والقدر خيره شره، فيترك هذا كله ولا يسأل فيه شيئاً، ولم يتعلم الواجب والفرض الذي يضره جهله في أصول الدين في الإسلام والإيمان، ثم هو يبحث عن دقيقة من الدقائق، ويشغل حياته كلها بهذه الدقيقة، ويتنطع فيها.
فمثلاً: لو دخل شخص الآن المسجد وهو لا يعرف شيئاً عن صلاة، ولا عن صيام، ولا زكاة، ولا أي شيء، فأول ما دخل سمع الشيخ يتكلم عن دار الإيمان ودار الكفر، فمن حين خرج من هذه الخطبة جعل حياته كلها بحثاً عن دار الإيمان ودار الإسلام ودار الكفر، وتقابله بعد سنة أو بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة وهو لا زال قائماً يبحث في أول موضوع سمعه مع أول دخلة دخلها بيتاً من بيوت الله عز وجل، هل ينفع هذا الكلام؟! هو يبحث عن دقيقة لا تعنيه أصلاً؛ لأنه قدم ما حقه التأخير، وأخر ما حقه التقديم، بل الذي أخره هو يجهله تماماً، ويتصور أنه غير مكلف بالبحث عنه، وهو الذي يبنى عليه العمل، وهو الذي يسأل عنه يوم القيامة.
فقوله: (هلك المتنطعون) هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق: أن كل من تنطع في دين الله فهو هالك.
ومعنى كلمة: (هلك) أي: انقطع به الطريق، ولذلك ما وجدنا متشدداً في دين الله عز وجل إلا ولا بد أنه ينقطع، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: كل من تنطع في الدين وتعمق فيه على غير ما ذكر؛ فلا بد أن يغلبه الدين وأن يرده، فإن كان من أهل التوفيق والسداد رده إلى أصل الديانة والحنيفية السمحة، وإن كان من أهل التعنت لا بد أن يبتلى.
وقد حدثني رجل عن آخر أنه رافق المتنطعين منذ عشر سنوات وزيادة وإلى الآن لم يهلك ولم ينقطع، حتى أخبرني صاحبه منذ ثلاثة أيام أنه ترك صحبة فلان، قلت: ولم؟ قال: لأنه يقول بضلال كل العلماء والشيوخ والدعاة على الساحة إلا ثلاثة، وهؤلاء الثلاثة هم فعلاً من أهل العلم، لكنهم على أية حال مغمورون؛ لأنهم لا يحبون الظهور، وهم من أهل العلم والحجة حقاً نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله.
وأما الحكم على جميع الشيوخ والدعاة والعلماء على الساحة بالضلال، وأنهم ليسوا من أهل الأصول ولا من أهل العلم على الحقيقة؛ فهذا بلا شك تنطع وغلو، بل هو غرور وكبر، حتى ذكر عن واحد من أكابر أهل العلم ممن ألان الله عز وجل له النصوص الشرعية كما ألان الحديد لداود عليه السلام، يقول هذا الغبي الأحمق: جلوسي على المقهى أحب إلي من بقائي في درس الشيخ محمد عبد المقصود.
فأقول: إن هذا الشخص إن شاء الله تعالى ليس أهلاً لحضور درس الشيخ ولا غيره، وإنما محله بإذن الله تعالى في المستقبل أن يبيع كتبه كما باع غيره كتبه، فقد سبقه المتنطعون والهلكى فباعوا مكتباتهم المجلد بجنيه واحد، وبلغ من حماقتهم أنهم باعوا من الكتاب الذي يضم عدة مجلدات مجلداً أو مجلدين، فهم ما باعوا الكتاب كله وإنما فرقوه في البيع، فرق الله تعالى شملهم.