[إخراج الله لذرية آدم من ظهره]
قال: [وعن ابن عباس قال: (مسح الله ظهر آدم عليه السلام فأخرج في يمينه كل طيب، وأخرج في يده الأخرى كل حبيت)]، وهي يمين أيضاً كما في الحديث: (وكلتا يديه يمين).
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم والذي فيه أن اليد الأخرى لله هي الشمال فحديث شاذ، وإن كان في صحيح مسلم.
وهذا الحديث عن ابن عباس له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مستحيل أن يعلم ابن عباس ذلك من نفسه، إنما لا بد أن يكون سمعه من المعصوم عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا أمر لا يصح فيه الاجتهاد، فليس لـ ابن عباس أن يجتهد ليقول: إن الله مسح على ظهر آدم أو على كتف آدم وأخرج الذرية، ولا يمكن أن يقول هذا إلا إذا كان عنده خبر من المعصوم، ولكنه كسل أو فتر أن يذكر أنه سمع ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي يسميه العلماء موقوف في حكم المرفوع.
قال: [وقال أبو بكر ورضي الله عنه: (خلق الله الخلق فكانوا قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي، فذهبتا إلى يوم القيامة)]، يعني: هذا قضاء مبرم من الله عز وجل، فقد خلق الخلق وقسمهم فريقين، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وهذا قضاء مبرم من الله عز وجل، وليس لأحد أن ينفك عنه، فمهما عمل صاحب الجنة بعمل أهل النار فإنه لا بد أن تدركه التوبة فيعمل قبل الموت بعمل أهل الجنة، ومهما عمل الإنسان بعمل أهل الجنة فإنه إذا كان قد قضي له قبل أن يخلق الله الخلق بأنه من أهل النار فلا بد أن يختم له بعمل أهل النار ويدخلها.
قال: [وعن ابن عباس قال: (لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام أخذ ميثاقه وأخرج من ظهره ذريته كهيئة الذر -أي: أخرج الذرية من ظهر آدم كما لو كانوا كالنمل- وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم التي تصيبهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا)].
فهذه شهادة منهم بربوبية الله عز وجل.
قال: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه في قول الله تعالى: ({وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣] قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أزواجاً، ذكراناً وإناثاً ثم صورهم ثم استنطقهم -يعني: طلب منهم أن يتكلموا- فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على ذلك أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، قال: فإني سأرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا برسلي وصدقوا بوعدي، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم، ثم رفع أباهم آدم عليهم -أي: أظهر لهم أباهم آدم فوقهم- فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب! لو شئت سويت بين عبادك) أي: فلا يكون هذا أسود وهذا أبيض، وهذا حسن الصورة وهذا قبيح الصورة وغير ذلك.
قال: [(فقال الله عز وجل: إني أحببت أن أشكر)]، فاختلاف الناس يؤدي إلى الشكر، فلو أنك رأيت رجلاً دميماً فإنك تقول: اللهم لك الحمد أن عافيتني من هذه الصورة، ولك الحمد أن حسنت خلقي، فهذا باب من أبواب الشكر.
قال: [(والأنبياء فيهم يومئذ مثل السرج)]، يعني: ظهر الأنبياء في وسط هذا الذر كما لو أنهم مصابيح هداية وإنارة لهذا الظلام، وهم كذلك.
قال: [وقد خصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها، قال: فهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:٧]]، أي: أخذ الله تعالى من النبيين ميثاقاً آخر غير الميثاق الذي هو اعتراف الربوبية، بل هو ميثاق خاص بالأنبياء، وهذا الميثاق هو تبليغ الرسالة.
قال: [(وهو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠]، وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:١٠٢]-وهم عامة الذر- قال: وذلك قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة:٧]-أي الأولى- {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:٧]-أي: الذي أخذه عليكم من ظهر أبيكم آدم- فكان في علم الله يومئذ من يكذبه ومن يصدقه- يعني: كان في علم الله لما كنا ذراً في ظهر آدم وقبل ذلك وقبل أن يخلق الله آدم من يع