[تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من المسيح الدجال أصل في التحذير من الاقتراب من أهل الشر]
قال: [إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه وليتحول -أي: لينتقل إلى مكان آخر- وإلا أهلك ولده وجيرانه، فنزع ابن سنان بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع منكم بـ الدجال فلينأ عنه)، أي: من سمع منكم بظهور المسيح الدجال فليهرب عن مكانه الذي نزل فيه، (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب فيتبعه لما يرى من الشبهات).
وأنتم تعلمون أن الدجال أعظم فتنة بين يدي الساعة؛ لما يرى الناس بأعينهم من فتنته التي لا يمكن أن يصبر عليها أحد، بل الناظر لأول وهلة فيما يأتي به الدجال يصدقه، فيزعم أنه نبي، ثم يزعم أنه إله، وفي زعمه النبوة خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يزعم أنه إله، ويأتي بأفعال إنما هي من خصائص إلهية، ولكن الله مكنه من ذلك فتنة للناس، ولم يتركهم هكذا، وإنما بين لهم خطره، وبين لهم ماذا سيصنع، فإنه يجوب الأرض شرقاً وغرباً في أربعين، وخطوته عند منتهى بصره، وهذا شيء خارق للعادة.
والأمر الثاني: أنه يكون في إحدى يديه خبز، وفي الأخرى نار، فأما الذي هي نار فهي في الحقيقة خبز، وأما التي فيها خبز فهي النار، ويدعو الناس في وقت جذب وفقر وقحط أن يأكلوا من يده التي بها الخبز، فيطعمهم النار وهم لا يعرفون؛ لأن الناس تقبل على الخبز وتخاف من النار.
وهو يوقف على مشارف مكة والمدينة فلا يدخلهما، وهذه خاصية للبلدين الشريفين، فيخرج إليه عالم من علماء المدينة في آخر الزمان، فيضربه بالسيف حتى يسقط على الأرض فلقتين، ويمشي بين الفلقتين والناس ينظرون، وهو يقول: أما ترون؟ أي: أما ترون أن هذا الرجل قد شق نصفين؟ ثم يدعوه فيقوم، أي: يقول له: قم فيقوم، فيقف أمامه حياً، ولا يفعل هذا إلا إله وذلك قد سبقه إليه عيسى ابن مريم، لكن عيسى بن مريم إنما فعل ذلك بإذن الله وأمر الله وإرادة الله وليس من عنده، فـ الدجال فعل ذلك ليصدق الناس أنه إله؛ لأن الإله هو الذي يحي الموتى، فهذا قد أماته وأحياه في نظر الجهال، ولكن هذا العالم الذي خرج إليه قال له: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فأنت المسيح الدجال الذي حذرنا منك النبي عليه الصلاة والسلام.
فيذكر الإمام هنا أن مجاورة أصحاب الأهواء والبدع كالسعي خلف المسيح الدجال، وهو قريب، فهذه فتنة وتلك فتنة أخرى، ويجمعهما أنهما فتنتان.
والعجيب قوله: (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب)، أي: أن الرجل يذهب إلى المسيح الدجال وهو على يقين أنه إنسان كاذب، (ثم ما يلبث أن يتبعه؛ لما يرى من الشبهات)، وهب أنه لم يتبعه فإنه لا يمكن أن يرجع من عنده سالماً، بل الشكوك والشبهات قد أكلت قلبه وعقله، ولذلك الواحد من أهل السنة الذي يتأهل للخصومات والمنازعات والمناظرات والمجادلات إنما يذهب فيعرض نفسه للفتنة، فيسمع الشبهات من أصحاب الأهواء، وبعد أن كان عنده يقين جازم أن هؤلاء على الضلال والبدعة فإذا به يرجع وقد اقتنع بكلامهم، أو على الأقل عذرهم فيما هم عليه؛ لما عندهم من الشبهات، والذي فيه خير يرجع متشككاً يبحث عن إجابة لهذه الشبهات إما في بطون الكتب، وإما بالاتصال بأهل العلم وغير ذلك، والمهم: أنه كلف نفسه ما لا يطيق، فأذل نفسه وأذل دينه في قلبه.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينبغي لأحدكم أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل أحدنا نفسه يا رسول الله؟! قال: يعرض نفسه لما لا يطيق)، فهذا باب من أبواب الذل: أن تتصدى لما لا تحسنه، ولذلك يقول العلماء: لو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، أي: لو قال: أنا جاهل لا أعرف شيئاً؛ فسيقل الخلاف جداً، لكن قضية واحدة عرضت على مائة جاهل، ولكل جاهل فيها قول، وكل الأقوال مطرحة لا قيمة لها، إذ إنها كلام الجهال لا يبنى على دليل، ولو أن كل متخصص في فن يجيده تصدى له دون غيره لكان الأمر أحسن من ذلك بكثير.
قال: [وعن عمران قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه -أي: فليبتعد منه ما استطاع- فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، وما يزال به حتى يتبعه؛ لما يرى من الشبهات).