والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:(إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).
فإمارة السفر إمارة مسنونة ومشروعة، واختلف فيها أهل العلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ والراجح أنها مستحبة، وهناك من قال: إنها واجبة؛ لورود النص بها، ولم يقس الحضر على السفر إلا اثنان من أهل العلم ابن تيمية في الفتاوى ثم الشوكاني، فقالا: الإمارة في الحضر جائزة قياساً على الإمارة في السفر، بل الإمارة في الحضر من باب أولى؛ لأن الإمارة في السفر تنتهي بانتهاء السفر، وأما الحضر فإنما دعت إليها ضرورة العمل إلى ما لا نهاية، ولم يوافقهم على ذلك أحد.
ثانياً: إن الذين يركنون إلى كلام ابن تيمية ومن بعده كلام الشوكاني أصحاب هوى، فقد كانوا قبل أن يعلنوا أنهم جماعة يردون على ابن تيمية والشوكاني، وبعد أن أعلنوا أنهم جماعة قالوا في نهاية أمرهم بكلام ابن تيمية وكلام الشوكاني، وهذا يدل على وجود الهوى.
ثالثاً: إن ابن تيمية ومن بعده الشوكاني قالا بجواز الإمارة في الحضر، وهم يقولون بوجوب الإمارة في الحضر، وشتان بين الجواز وبين الوجوب، فـ ابن تيمية والشوكاني لم يقولا بالوجوب، وإنما قالا بالجواز إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يربي أصحابه على ذلك، واليوم مثلاً نجد أهل مسجد معين يقولون: لا بد من الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد، والذي يتخلف يدفع جنيهاً، وهذا الجنيه يوضع في صندوق المسجد، أو يقولون: يلزم كل واحد فينا بأن يصلي الليلة في بيته، فإن لم يقم يعزر بدفع مبلغ كبير، أو بأن ينام على ظهره في المسجد ويرفع رجليه ويجلد عشر جلدات تعزيراً، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب من أجل هذا، ومن لم يكن له وازع من قلبه فلا خير فيه، والذي يسمع النص ولا يتأثر به ولا يعزم من داخله على التزامه فلن ينفع معه الضرب، وإن لم يقتنع تماماً بقولك فلن يقتنع به بعد الضرب، بل سيزداد منه بعداً، وهذه الطريقة التي يعملونها في المساجد هي طريقة في غاية النكارة، ولو سمع الصحابة بهذا لماتوا ضحكاً مما وقع بنا، فأنت ليس عليك إلا أنك تذكره، فإن كان من أهل الذكرى انتفع بها، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:٥٥].
فالذي ليس معه إيمان بالشيء ولا ينتفع بنصيحة فلا خير فيه، وأما أنك تعزره وتؤدبه ثم تهجره فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).
ولم يضربه أو يعلقه في المسجد وغير ذلك، فلما سمع عبد الله هذه الكلمة ما ترك قيام الليل لا في حضر ولا سفر، ولا في غزوة ولا حرب، فالحر تكفيه الإشارة، والعبد تقرعه العصا، وكان هذا في الماضي، وأما في هذا الوقت فالحر نفسه لا تقرعه العصا.