[التحذير من مقالة جهم بن صفوان]
قال: [وأحذرهم مقالة جهم بن صفوان وشيعته].
ولا تزال النصيحة دائمة مستمرة، فهو يقول: وأحذر إخواني المسلمين أن يقعوا في مقالة الجهم بن صفوان وشيعته [الذين أزاغ الله قلوبهم، وحجب عن سبل الهدى أبصارهم، حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعر منه الجلود، وأورث القائلين به نار الخلود]، أي: هم كافرون خارجون من الملة، مخلدون في نار جهنم أبد الآبدين، وسيأتي معنا باب إثبات كفر الجهمية، وأن القائل من علماء الأمة بكفرهم كفراً مخرجاً عن الملة أكثر من ستمائة عالم من علماء الأمة.
قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق]، وهذا أول باطل خرجوا به [والقرآن من علم الله تعالى، وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى]، يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى خلق هذا الكلام فهذا يعني أنه لم يكن موجوداً فأوجده الله، كان عدماً فأحدثه الله، فهو محدث في ظن الجهمية والمعتزلة، مخلوق أي: حادث، ومعنى حادث أنه لم يكن موجوداً من قبل، فالقرآن في ظن الجهمية والمعتزلة وأهل البدع لم يكن موجوداً فوجد بعد ذلك، وهذا القرآن الذي هو كلام الله فيه إثبات الأسماء والصفات، وهذا يعني أن ذات الله تعالى ذاتاً بلا أسماء ولا صفات، ثم خلق الله تعالى الأسماء والصفات؛ لأن القرآن إذا كان مخلوقاً وهو الذي حوى الأسماء والصفات وكان حادثاً ومخلوقاً فإن كل ما فيه مخلوق، والذي فيه هو الأسماء والصفات.
إذاً: كلها مخلوقة لله، والله تعالى لم يكن مسمى بأسماء ولا متصفاً بصفات، فخلق الأسماء والصفات بعد ذلك، وهذا من أخطر الباطل، وأكفر الكفر.
قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق، والقرآن من علم الله تعالى وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى، فمن زعم أن القرن مخلوق فقد زعم أن الله كان ولا علم]؛ لأن الله تعالى أثبت أنه علام الغيوب، وأثبت أنه عليم بذات الصدور، عليم بكل شيء: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩]، وأثبت أنه عالم غيب السماوات والأرض، فأثبت الله تعالى العلم في القرآن، فإذا كان هذا القرآن مخلوقاً، فالله تعالى لم يكن عليماً فصار عليماً، لم يكن سميعاً فصار سميعاً، لم يكن قديراً فصار قديراً، لم يكن حليماً ولا غفوراً، وغير ذلك من سائر أسمائه وصفاته، لأنها في ظن هؤلاء وزعمهم أنها مخلوقة، ومعنى مخلوقة أنه لم يكن مسمى ولا متصفاً بهذا ولا بذاك.
قال [: ومن زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة فقد زعم أن الله مخلوق محدث]، أي: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله لم يكن قد تسمى بأسماء ولا اتصف بصفات، وكل هذا حادث، ولا يتصور أن ذاتاً بغير صفات ولا أسماء، وبالتالي فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله تعالى مخلوق.
قال: [وأنه لم يكن ثم كان -تعالى الله عما تقول الجهمية الملحدة علواً كبيراً- وكلما تقوله وتنتحله، فقد أكذبهم الله تعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال أصحابه، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأن الله عز وجل لم يزل عليماً سميعاً بصيراً متكلماً، تاماً بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسنذكر من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين -أي: وهذه هي المصادر الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع- ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه، ما إذا سمعه المؤمن العاقل العالم ازداد به بصيرة وقوة وهداية، وإذا سمعه من قد داخله بعض الزيغ والريب وكان لله فيه حاجة وأحب خلاصه وهدايته نجاه ووقاه، وإن كان ممن قد كتبت عليه الشقوة زاده ذلك عتواً وكفراً وطغياناً.
ونستوفق الله لصواب القول وصالح العمل].
أي: نطلبه التوفيق في ذلك كله.
ثم يبدأ الباب الأول من القرآن الكريم في سوق الآيات التي تثبت أن الله تعالى لا يزال متصفاً بالكلام، يتكلم بأي كلام شاء، في أي وقت شاء، وفي أي زمان شاء سبحانه وتعالى، فالله تبارك وتعالى تكلم بما شاء في أي مكان شاء وفي أي وقت شاء.
أما الواقفة، فهم الذين قالوا: لا نقول: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق.
أي: نحن نشك في أنه مخلوق أو غير مخلوق.
قال الإمام أحمد: وهؤلاء أكفر وأشر ممن قالوا بأنه مخلوق.
ثم يثلث الإمام باللفظية: وهم الذين قالوا ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
إذاً: هنا ثلاثة أبواب: الباب الأول: إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإثبات ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
الباب الثاني: الرد على الواقفة وتكفيرهم.
الباب الثالث: الرد على اللفظية وتكفيرهم كذلك، وهم الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
وهنا مسألة وهي: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال أنه مخلوق فهو كافر، إذا كان عالماً بما يقول فيكفر ابتداءً، وإذا كان جاهلاً يُعلَّم؛ فإن عُلِّم استتيب فإن تاب وإلا قتل، وسنذكر خطورة القول، ومعنى القول بأن القرآن مخلوق فيما سيأتي.