للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر سفيان بن عيينة في معرفة الإيمان]

قال: [قال: محمد بن عبد الملك بن مسلم أبو عبد الله المصيصي: كنا عند سفيان بن عيينة -وهذا في حديثه سنة (١٧٠هـ) فسأله رجل عن الإيمان فقال ابن عيينة: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله] يعني: يزيد إلى ما شاء الله لا منتهى لزيادته؛ لأن زيادة الإيمان متعلقة بالأعمال، فكلما ازداد المرء من العمل ازداد إيماناً.

ثم قال: [يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار إلى إصبعه].

يعني: يزيد الإيمان في قلب العبد بسبب العمل والاعتقاد حتى يكون كالجبال الرواسي، وينقص بسبب ترك العمل حتى لا يبقى منه إلا ذرة أو شعيرة، أو لا يبقى منه شيء ألبتة.

ثم قال: [قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده] يعني: القول بأنه قول بلا عمل كان قولاً صحيحاً في أول الأمر، وفي صدر الشريعة في العهد المكي.

ثم قال: [إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله].

يعني: لم يكن مطلوباً منهم في العهد المكي غير التوحيد بلا عمل، تكاليف قلبية، من نبذ للأصنام، وهذا كله في الظاهر عمل، لكن يحمل كلامه على الفرائض والحدود، وعلى مباني الإسلام، وإن كان الإيمان والتوحيد في حد ذاته عملاً قلبياً يترجم في صورة ولاء وبراء لعبادة غير الله عز وجل.

قوله: (فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها) أي: إلا ما ينقضها.

وقوله: (وحسابهم على الله) أي: إذا نافقوا بهذا القول فحسابهم على الله، لكنهم إذا صرحوا بالإيمان والتوحيد بألسنتهم عصموا دماءهم وأموالهم، فكان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وأما هم عند الله عز وجل فهم منافقون كفار، يجازيهم الله عز وجل على النفاق النار، وهذا معنى قوله: (وحسابهم على الله).

ثم قال: [فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة] أي: لما استقر الإيمان والتوحيد في قلوبهم، وعلم الله تعالى صدق هؤلاء، ولم يكن عندهم نفاق؛ لأن النفاق إنما نشأ في المدينة، أما أهل مكة فليس عندهم نفاق، ولذلك كان الواحد منهم يعذِبه مولاه في قول التوحيد، وكان بإمكانه أن ينافق، ويخرج من أذى سيده ومولاه بأن ينطق بكلمة الكفر، وعنده في ذلك الرخصة، ومع هذا آثر العزيمة، فلم يكن ينطق بها حتى يسحب على بطنه تارة وعلى ظهره تارة في حر الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد! ربما غلب على ظنه في ذلك الوقت أن العزيمة لها تأثير كبير في قلوب كل من رأى هذا العذاب؛ ولذلك أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما قد نزل بنا؟) أي: من أذى هؤلاء المشركين، (ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا)، يطلب دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أن يرفع عنهم هذا البلاء، ولكن هذا الطلب للنبي عليه الصلاة والسلام أثار غضبه وحفيظته، كان مسنداً ظهره إلى الكعبة فجلس، كأنه يعلّم خباباً ومَن وراء خباب إلى قيام الساعة سنن الله الكونية، وأن الحرب دائرة رحاها بين الإيمان والكفر، وأهل الضلال وأهل الاعتدال، وأن ذلك سنة الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، فالعداوة قائمة ومستحكمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من كان قبلكم كان يخد له الأخاديد فيوضع فيها، وينشر بالمناشير من رأسه إلى أخمص قدميه، حتى يلقى على الأرض شقين، لا يرده ذلك عن دينه).

ثم يبشر خباباً والحالة هذه الناظر إليها يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، يعني: تصور قلة المؤمنين في ذلك الزمان، وكثرة المعاندين المحاربين والكائدين لهذا الدين، وما نزل بهذه الثلة المؤمنة القليلة من التعذيب والفتك والضرب والطرد والتشريد بلا شك بحسابات جميع البشر يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، ولا خروجه من حيز مكة.

ثم تأتي البشارة وهي من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، قال: (وليظهرن الله عز وجل هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى لا يبقى بيت حجر أو مدر إلا دخله) أي: أخبار هذا الدين تدخل في كل بيت، وهل هناك بيت الآن على هذه الأرض لا يسمع بمحمد ودين محمد؟

الجواب

لا؛ ولذلك هذه بشارة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام ليطمئن أهل التوحيد والإيمان وأصحاب الدعوة إلى الله عز وجل على هدى وبصيرة من أهل السنة والجماعة أنهم ظاهرون إلى قيام الساعة.

ويدل على ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) أي: من أهل البدع أو الشرك والكفر والإلحاد والقتال: (لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وهي