وذكر الإمام أحمد أن الجهم بنى أصل كلامه على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: الأولى: آية نفي الإدراك، قال الله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:١٠٣]، وقلنا من قبل في هذه الآية: إن الإدراك يعني الإحاطة والشمول.
الثانية: آية نفي المثل؛ لينفي بها الصفات، ويجعل من أثبتها مشبهاً.
قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١]، وقد أخذنا في الكلام عن القدرية: أنه ما من صاحب بدعة إلا ويحتج بأول الآية ويترك آخرها، أو يحتج بآخرها ويترك أولها، فمثلاً: هذه الآية كلها توحيد لله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١]، فقوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: لا تشبهه الأشياء ولا تماثله، وليس له في الأشياء والمخلوقات مثيل ولا شبيه ولا ند ولا كفؤ، ثم أثبت أنه السميع البصير، فسمعه يختلف عن أسماع الأشياء، وبصره يختلف عن أبصار الأشياء، إذاً هو سميع بسمع يليق بجلاله، وبصير ببصر يليق بجلاله؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:١١]، فأهل السنة يحتجون بأول الآية وآخرها، وأهل البدعة يحتجون ببعض الآية ويتركون البعض الآخر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}[الأنعام:٣]، فقالوا: ما دام في الأرض فهو في الأرض بذاته، وما دام في السماء فهو في السماء كذلك، وهو ما بين السماء والأرض، حتى في الأراضين السبع، لكن كل هذا يقولون: بذاته، وهذا الذي جعل أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله بذاته مستو على العرش، فلم يكونوا يقولون: بذاته في أول الأمر، لكن لما تطرق المبتدعة إلى القول في الذات اضطر أهل السنة والجماعة أن يقولون: بالذات كذلك، فأهل السنة والجماعة يقولون دائماً: الله على العرش استوى، ولا يقولون بذاته ولا بغير ذاته، وإنما يسكتون عن هذا؛ لأن الله تعالى قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥]، لكن لما قالت المبتدعة: هو في كل مكان بذاته؛ قال أهل السنة: لا، بل هو بذاته على العرش، وبعلمه وسمعه وإحاطته ورعايته في جميع الخلق، ومع جميع الخلق، فمعيته معية علم وسمع وبصر وإحاطة ورعاية وقيومية وغير ذلك من سائر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى، فلم يكونوا يقولون: بالذات أولاً؛ لأن الأدلة ليس فيها ذكر للذات، وما كانوا يتمنون أن يلجئوا لمثل هذا، وإنما ألجأهم واضطرهم إلى ذلك الرد على أهل البدع.