[اختلاف العباد في نظرهم إلى الوجه القائم بالرب والوجه القائم بالعبد وأهمية الجمع بينهما]
العبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، أي: القائم بالرب تبارك وتعالى، وملاحظة قائمة بفعله هو، فمن غلب النظر إلى الوجه الأول إنما يعتمد على القدر، وأنه مجبور على الأفعال، فيقول: الله هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي جبرني على هذا، إذاً فلم يلومني؟ وملاحظة للوجه الثاني، والكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته، وطاعته ومعصيته.
فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فهو يريد أن يقول لك: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فلا بد أن تنظر إلى أن الفعل الذي فعلته جانب منه متعلق بالله تعالى، وجانب منه آخر متعلق بالعبد، فلا ترم الحمل كله على القدر؛ لأنك لو رميته كله على القدر فلن ترى نفسك مذنباً قط، بل تستمر في المعصية وتنتقل من معصية إلى ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، وحجتك في ذلك: أن هذا مقدر لك في اللوح المحفوظ، وإلا لما كان قد وقع منك أبداً، فأنت لا ترى نفسك مجرماً، ولا مذنباً، ولا عاصياً أبداً، وإنما ترمي بثقلك ومعاصيك على القدر، ولا تنظر أبداً إلى نفسك، ولا بد للعبد من هاتين الملاحظتين: أن ينظر إلى كل فعل وقع منه على أن له ملاحظتان وبابان: باب منه متعلق بالسماء، أي: متعلق بالله تعالى، وباب منه متعلق بالأرض، أي: بفعل العبد، ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الآخر، ولو غاب أحد الأمرين عن الآخر لحمل العبد على الضلال وفساد الاعتقاد، ولذلك الكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته.
فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}[التكوير:٢٨]، مع قوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:٣٠]، فأثبت الله تعالى لنفسه مشيئة، وأثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة المولى عز وجل، وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[المدثر:٥٤ - ٥٦]، حتى الذكرى بمشيئة الله تعالى.
فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين- أي: الملاحظتين- ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، أي: بالقدر، وهذا متعلق بفعل العبد -كلام جميل- ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الثاني، وإلا هلك العبد وضل وساء اعتقاده في الله تعالى.
وبعد ذلك يقول لك هنا: ومن الناس من يتسع قلبه لهاتين الملاحظتين فيراهما جميعاً، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما؛ لقوة الوارد عليه وضعف المحل، أي: أن صدره يضيق، فلا يستطيع أن يستوعب مسألة القدر؛ لقوة الشبهة الواردة عليه وضعف المحل، أي: ضعف القلب والعقل، ومثل ابن القيم لذلك بمثال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:(الدعاء يرد القضاء)، قال: ومن العباد من يقول: ومع هذا ندعو الله ولا يرد عنا القضاء، فلم؟ قال: لأن البلاء النازل من السماء، والدعاء الصاعد إلى السماء يلتقيان في السماء، فإذا كان الدعاء أقوى وبحرارة وبحضور القلب رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء، وإذا كانا في مستوى واحد فهما يعتلجان إلى قيام الساعة، أي: يتصارعان مع بعضهما البعض، وكلما هذا يغلب يرجع هذا مرة ثانية، فهما يعتلجان، أي: يتصادمان في السماء فلا يقوى البلاء على الدعاء ولا الدعاء على البلاء، إذ كل منهما في قوة صاحبه، فكذلك هنا قال: إنما يضيق صدر العبد عن متابعة أن الفعل له ملاحظتان: الأولى: متعلقة بالقدر بفعل الله تعالى، والثانية: متعلقة بفعل العبد، فيضيق صدره لقوة الوارد، أي: لقوة الشبه مثلاً وضعف المحل، مثل أن تأتي برجل طيب ودائماً يغير رأيه فتقول له: فلان هذا يعد لك كميناً وسوف يعمل فيك كذا وكذا، فانتبه حتى لا يغلبك، وأنا لك ناصح، ثم هل جربت علي كذباً وغشاً من قبل؟ فيقول: لا، إذاً أنا أحذرك منه، وأنا لا أغتابه وإنما أقول: احذر، فإنه يعد لك كذا وكذا، وقد أخبرني بنفسه أنه يعد لك كذا وكذا، وبذلك تكون الحجة قد قامت عليه والعلم قد بلغه، ثم يقابله هذا الذي كان يعد له هذه البلية فيكلمه بأدب واحترام، فينسى الذي مضى ويشرب المقلب؛ لأن العلم وإن توفر إلا أن المحل ضعيف، ولذلك عمر بن الخطاب قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني، أي: أننا لا نخادع أحداً ولا نسمح لأحد قط أن يخدعنا، فإذا أتى شخص ليخدعنا فنحن نفهم ذلك سلفاً، ولا نمكنه من ذلك؛ لأن المحل قوي، فلا يستطيع أحد أن يغلبنا، ولذلك إبليس نفسه لما كان يرى عمر يسلك فجاً يسلك هو فجاً آخر؛ لقوة المحل، فـ ابن القيم عليه رحمة الله يقول: ومن الناس من يضيق قلبه عن اجتماع الملاحظتين، لقوة الوارد عليه وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب، وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالله، أي: لو أن شخصاً يقول: