ويجوز للعالم المتبحر أن يصدر منه ذلك إذا تفرس في وجه الحاضرين أسئلة أو رسالة.
قال:[سلوني عما شئتم، فقال ابن الكواء -وهو رأس من رءوس البدعة-: ما السواد الذي في القمر؟ قال علي: فإن تلك لله -أي: لا يعلمه إلا الله- ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك؟! ذاك محو الليل.
وفي رواية: أنه سأله عن الحاملات وقراً؟ قال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك! سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك].
قال الشيخ ابن بطة:[وهكذا مكان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه، ولا يضره جهله، فربما كان الجواب أيضاً مما لا يدركه السائل، ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب، وربما زجروه وعنفوه].
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يستطيع أن يتكلم في القدر، ويحسن الكلام في القدر، ومع ذلك لم يجب في القدر بشيء.
وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما يحسن ذلك، ومع هذا ما كان يجيب في القدر بشيء؛ لأن من منهج السلف أنه إذا ذكر القدر أمسكوا عن الجواب؛ لأن هذا باب عظيم وباب شائك، وإذا تحدث فيه متحدث فلابد أن يمكث فيه الساعات الطوال حتى يبين أصل الإيمان بهذا الأمر، ثم يبين مراتبه ومسائله وأحواله للعامة، لكن إذا كان المقام لا يسمح فإن قطع الكلام فيه أنجى للعامة في اعتقادهم، وقد كان السلف يأمرون بالإيمان بالقدر؛ لأن الله أمر بذلك، وانتهت القضية عند هذا الحد.
وكذلك يستطيع السلف أن يتكلموا في النجوم، ولكنهم كانوا إذا سئلوا في النجوم ومنازلها ومساكنها أمسكوا، ويستطيع السلف أن يتكلموا في الصحابة، أي: في منزلتهم وفي فضلهم، وفي الفتنة التي دارت بينهم، لكنهم كانوا إذا سئلوا عن الفتنة أمسكوا.
فإذا كنا نحن نعرف أن نتكلم في الفتنة فهم أولى بذلك منا، لكنهم أمسكوا.
وهذا عمر بن عبد العزيز الإمام الراشد، إمام الهدى، لما سئل عن الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال: فتنة نجى الله تعالى منها سيوفنا، فلم لا ننزه عنها ألسنتنا؟! وكان سيقطع كل فتنة يمكن أن تدار إذا أجاب بغير هذا الجواب، ولكنه تكلم بهذا الكلام الوجيز في المبنى العظيم جداً في المعنى، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، فعبر رحمه الله بكلمات يسيرات عن معتقد أهل السنة والجماعة في الخلاف الذي دار بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم.